معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

قوله تعالى : { لقد نصركم الله في مواطن } ، أي مشاهد .

قوله تعالى : { كثيرة ويوم حنين } ، وحنين واد بين مكة والطائف . وقال عكرمة : إلى جنب ذي المجاز . وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ، ثم خرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثنى عشر ألفا ، عشرة آلاف من المهاجرين وألفان من الطلقاء ، قال عطاء كانوا ستة عشر ألفا . وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف ، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط ، والمشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف ، وعلى هوازن مالك بن عوف النصري ، وعلى ثقيف كنانة بن عبد يا ليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم على قلة ، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل . وفى رواية : فلم يرض الله قوله ، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ، ثم نادوا : يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا وانكشف المسلمون . قال قتادة : وذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو خثيمة عن أبي إسحاق قال : قال رجل للبراء بن عازب : يا أبا عمارة فررتم يوم حنين ؟ قال : ولا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم وهم حسر ليس عليهم سلاح ، أو كثير سلاح ، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم ، جمع هوازن وبني نصر ، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطؤون ، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به ، فنزل واستنصر وقال : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ، ثم صفهم . ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق . وزاد قال : فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه . ورواه زكريا عن أبي إسحاق . وزاد قال البراء : كنا إذا احمر البأس نتقي به ، وأن الشجاع منا للذي يحاذي به - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم . وروى شعبة عن أبي إسحاق قال : قال البراء : إن هوازن كانوا قوما رماة ، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم ، فانهزموا ، فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر . قال الكلبي : كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس . وقال آخرون : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير : العباس بن المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ، قال : ثنا أبو طاهر ، أحمد بن عمرو بن سرح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال : قال عباس : " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار ، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع ، وأبو سفيان آخذ بركابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس : ناد أصحاب السمرة ، فقال عباس - وكان رجلا صيتا - فقلت بأعلى صوتي : أين أصحاب السمرة ؟ قال : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يا لبيك يا لبيك ، قال : فاقتتلوا والكفار ، والدعوة في الأنصار يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم ، فقال : هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ، ثم قال : انهزموا ورب محمد ، فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى ، قال : فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فمازلت أري حدهم كليلا ، وأمرهم مدبرا . وقال سلمة بن الأكوع : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا قال فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ، ثم قبض قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل به وجوههم ، فقال : شاهت الوجوه ، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينه ترابا بتلك القبضة ، فولوا مدبرين ، فهزمهم الله عز وجل فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين " . قال سعيد بن جبير : أمد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين . وفي الخبر : أن رجلا من نبي نضر يقال له شجرة ، قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق والرجال الذين عليهم ثياب بيض ، ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم ؟ فأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تلك الملائكة . قال الزهري : وبلغني أن شيبة بن عثمان بن طلحة قال : استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة ، وكانا قد قتلا يوم أحد ، فأطلع الله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي فالتفت إلي وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة ، فأرعدت فرائضي ، فنظرت إليه فهو أحب إلي من سمعي وبصري ، فقلت : أشهد أنك رسول الله ، وأن الله قد أطلعك على ما في نفسي . فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين ، انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم ، فبعث رسول الله رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على جيش المسلمين إلى أوطاس ، فسار إليهم فاقتتلوا ، وقتل : دريد بن الصمة ، وهزم المشركين وسبى المسلمون عيالهم ، وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري ، فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله ، وأهله فيمن أخذ ، وقتل أمير المسلمين أبو عامر . قال الزهري : أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر ، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم ، فأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسم فيها غنائم حنين وأوطاس ، وتألف أناسا ، منهم : أبو سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، والأقرع بن حابس ، فأعطاهم .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيميي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو اليمان ، ثنا شعيب ، ثنا الزهري ، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسا من الأنصار قالوا لرسول الله - حين أفاء على رسوله من أموال هوازن ما أفاء ، فطفق يعطى رجالا من قريش المائة من الإبل - فقالوا : " يغفر الله لرسول صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ؟ قال أنس : فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم ، فأرسل إلى الأنصار ، فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم ، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما كان حديث بلغني عنكم ؟ فقال له فقهاؤهم أما ذووا رأينا يا رسول ، فلم يقولوا شيئا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا : يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى قريشا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ، قالوا : بلى يا رسول الله قد رضينا ، فقال لهمإنكم سترون بعدي أثرة شديدة ، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض " . وقال يونس عن ابن شهاب : " فإني أعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم " ، وقال : " فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض " ، قالوا : سنصبر " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا وهيب ، ثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد عن عاصم قال : " لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا ، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصابه الناس ، فخطبهم فقال : يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟ كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن قال : ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن ؟ قال : لو شئتم قلتم كذا وكذا ، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم ، الأنصار ، شعار والناس دثار ، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن أبي عمرو المكي ، ثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عبادة بن رفاعة ، عن رافع بن خديج قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل ، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك ، فقال عباس بن مرداس : فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع أتجعل نهبي ونهب العب يدبين عيينة والأقرع وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع قال : فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة . وفى الحديث أن ناسا من هوازن أقلبوا مسلمين بعد ذلك ، فقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس ، وقد أخذت أبناؤنا ونساؤنا وأموالنا .

أخبرنا عبد الواحد بن المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا سعيد بن عفير ، حدثني الليث ، حدثني عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير : أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين ، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه ، فاختاروا إحدى الطائفتين : إما السبي ، وإما المال . قالوا : فإنا نختار سبينا . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين ، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم ، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل ، ومن أحب أن يكون على حظ حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا ، فليفعل فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ، فرجع الناس ، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا . فأنزل الله تعالى في قصة حنين : " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم " ، حتى قلتم : لن نغلب اليوم من قلة ، " فلم تغن عنكم " ، كثرتكم ، " شيئا " ، يعنى إن الظفر لا يكون بالكثرة ، " وضاقت عليكم الأرض بما رحبت " ، أي برحبها وسعتها ، " ثم وليتم مدبرين " ، منهزمين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم ، و { مواطن } جمع موطِن بكسر الطاء ، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ، و «المواطن » المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة ، ولم يصرف { مواطن } لأنه جمع ونهاية جمع ، { ويوم } عطف على موضع قوله { في مواطن } أو على لفظة بتقدير وفي يوم ، فانحذف حرف الخفض ، و { حنين } واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان ، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [ حسان رضي الله عنه ] : [ الكامل ]

نصروا نبيَّهم وشدُّوا أزْرَه*** بحنينَ يومَ تَوَاكلِ الأبطالِ{[5580]}

وقوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال : «لن نغلب اليوم من قلة » ، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس ، ثم عطف القدر بنصره ، وقوله { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها ، ف «ما » مصدرية ، وقوله { ثم وليتم مدبرين } يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفاً سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصافَّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي ، فانهزم المسلمون ، قال قتادة : ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء ، وقال أبو عبد الرحمن الفهري : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وبين يديه أيمن بن أم أيمن ، وثم قتل رحمه الله ، فلما رأى رسول الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض ، قاله البراء بن عازب ، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : شاهت الوجوه ، وقال عبد الرحمن : تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار ، وأمر رسول الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة ، فرجع الناس عنقاً واحداً{[5581]} وانهزم المشركون ، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب ، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير .

وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفاً ، وهذا غلط ، و { مدبرين } نصب على الحال المؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً }{[5582]} والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار .


[5580]:- البيت لحسّان بن ثابت (الصحاح-حنن) قال: وحنين: موضع يذكر ويؤنث، فإن قصدت به البلدة والموضع ذكّرته وصرفته، كقوله تعالى: {يوم حنين}، وإن قصدت به البلدة والبقعة أنثته ولم تصرفه كما قال الشاعر: وساق البيت. وقال الفراء في معاني القرآن": "وقوله {ويوم حنين}: واد بين مكة والطائف. وجرى حنين لأنه اسم لمذكر، وإذا سميت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكر لا علة فيه أجريته، من ذلك حنين وبدر وأحد وحراء وثبير ودابق وواسط. وإنما سمي واسطا بالقصر الذي بناه الحجاج بين الكوفة والبصرة، ولو أراد البلدة أو اسما مؤنثا لقال: واسطة، وربما جعلت العرب (واسط وحنين وبدر) اسما لبلدته التي هو فيها فلا يجرونه، وأنشد بعضهم: نصروا نبيهم***الخ".
[5581]:- بضم العين والنون: جماعة واحدة، ومنه حديث فزارة: (انظروا إلى عنق الناس) أي: جماعتهم، ومنه حديث الحديبية: (وإن نجوا تكن عنق قطعها الله) أي: جماعة من الناس. قاله ابن الأثير في النهاية.
[5582]:- من الآية (91) من سورة (البقرة)، وفيها يقول سبحانه: {ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم ، لشركهم ، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك : اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين ، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح ، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم ، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة ، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره ، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين . فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق .

وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا ، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه : من تأييد الجامعة ، ومن المغانم ، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها ، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية .

وأكّد الكلام ب { قد } لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر .

و { مواطن } : جمع مَوْطِن ، والموطن أصله مكان التوطّن ، أي الإقامة . ويطلق على مقام الحرب وموقفها ، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة .

و { يومَ } معطوف على الجار والمجرور من قوله : { في مواطن } فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو { نصركم } والتقدير : ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن ، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب ، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن ، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكانٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين ، وليس هذا المراد . ولهذا فالتقدير : في مواطن كثيرة وأياممٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين .

وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب : لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر ، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال ، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالى : { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } [ التوبة : 24 ] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر ، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم ، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها ، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي : ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم .

و { حُنين } اسم واد بين مكة والطائف قُرب ذي المجاز ، كانت فيه وقعَة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا اثني عشر ألفاً ، وبين هوازن وثقيف وألفاً فهما ، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضباً لهزيمة قريش ولفتح مكة ، وكان على هوازن مالك بن عوف ، أخو بني نصر ، وعلى ثقيف عبد يَالِيل بن عمرو الثقفي ، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتّى اجتمعوا بحُنين فقال المسلمون : لن نغلب اليومَ من قلّة ، ووثقوا بالنصر لقوّتهم ، فحصلت لهم هزيمة عند أوّل اللقاء كانت عتاباً إلهياً على نسيانهم التوكّل على الله في النصر ، واعتمادهم على كثرتهم ، ولذلك روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين « لن نغلب من قلّة » ساءهُ ذلك ، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه ، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلاّ كتائبُ العدوّ وقد شَدَّت عليهم وقيل : إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم ، وكانت هوازن قوماً رُماة فاكثبوا المسلمينَ بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وتفرّقوا في الوادي ، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ عمَّه أن يصرخ في الناس : يا أصحاب الشجرة أو السمرة يعني أهل بيعة الرضوان يا معشر المهاجرين يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار هلمّوا إلي ، فاجتمع إليه مائة ، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس ، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الآن حَمِي الوطيس » فكانت الدائرةُ على المشركين وهُزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسُبيت نساؤهم .

فذلك قوله تعالى : { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم ، بحال من يرى الأرض الواسعةَ ضيّقةً .

فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله : { بما رحبت } استعير { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } استعارة تمثيلية تمثيلاً لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره ، بحال من هو في مكان ضَيِّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه .

فالباء للملابسة ، و { ما } مصدرية ، والتقدير : ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها : أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح بن حكيم :

ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها *** من الضيق في عينيْه كفة حابل

قال الأعلم « أي من الزعر » هو مأخوذ من قول الآخر :

كأنَّ فجاج الأرض وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفّة حابل

وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى { وضاقت عليكم اورض بما رحبت } لمْ تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنَّ الأرض ضاقت عليكم ، ومنهم من أجمل فقال : أي لشدّة الحال وصعوبتها .

وموقع { ثُم } في قوله : { ثم وليتم مدبرين } موقع التراخي الرتبي ، أي : وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين .

والتولّي : الرجوع ، و { مدبرين } حال : إمّا مؤكّدة لمعنى { وليتم } أو أريد بها إدبار أخص من التولّي ، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب ، ويكون للفرّ في حِيل الحروب ، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحاً حربياً .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} يعني يوم بدر، ويوم قريظة، ويوم النضير، ويوم خيبر، ويوم الحديبية، ويوم فتح مكة، ثم قال: {و} نصركم {ويوم حنين} وهو واد بين الطائف ومكة، {إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت}، يعني برحبها وسعتها، {ثم وليتم مدبرين} لا تلوون على شيء.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

... لما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قبضت أم سليم – امرأة أبي طلحة- على عنان بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالت: يا رسول الله، مر بهؤلاء الذين انهزموا فنضرب رقابهم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو خير من ذلك يا أم سليم؟ ...

...

وكانت حنين في حر شديد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة. "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ "يقول: وفي يوم حنين أيضا قد نصركم. وحنين: واد فيما ذكر بين مكة والطائف...

"إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ" وكانوا ذلك اليوم -فيما ذكر لنا- اثني عشر ألفا. ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلكَ اليَوْم: «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلّةٍ». وقيل: قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول الله: "إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْن عَنْكُمْ شَيْئا" يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا. "وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ" يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم. والباء ههنا في معنى «في»، ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها، يقال منه: مكان رحيب: أي واسع، وإنما سميت الرحاب رحابا لسعتها.

"ثُمّ وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ" عن عدوّكم منهزمين مدبرين، يقول: وليتموهم الأدبار، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد وشدّة البطش، وأنه ينصر القليل على الكثير إذا شاء ويخلي القليل فيهزم الكثير...

عن قتادة، قوله: "لَقَدْ نَصَركُمُ اللّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ..." حتى بلغ: "وَذلكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ" قال: وحنين ماء بين مكة والطائف قاتل عليها نبيّ الله هوازن وثقيف... وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء، وذكر لنا أن رجلاً قال يومئذ: لن نغلب اليوم بكثرة قال: وذُكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس، وجلوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء. وذُكر لنا أن نبيّ الله قال: «أيْ ربّ آتِني ما وعَدْتَنِي» قال: والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «نادِ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ ويا مَعْشَر المُهاجِرِينَ» فجعل ينادي الأنصار فخذا فخذا، ثم نادي: يا أصحاب سورة البقرة قال: فجاء الناس عُنُقا واحدا. فالتفت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وإذا عصابة من الأنصار، فقال: «هَلْ مَعَكُمْ غيرُكُمْ؟» فقالوا: يا نبيّ الله، والله لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمن لكنا معك، ثم أنزل الله نصره، وهزم عدوّهم، وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول الله كفّا من تراب، أو قبضة من حصباء، فرمى بها وجوه الكفار، وقال: «شاهَتِ الوُجُوهُ» فانهزموا...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يذكرهم عز وجل منتهم عليهم وفضله: أن النصرة والظفر متى كان إنما كان بالله لا بكثرتهم وقوتهم؛ لأنه لو كان بالكثرة والقوة لم يكن للمسلمين قوة وكثرة ما كان يوم حنين ثم كانت الهزيمة عليهم في الابتداء لإعجابهم بالكثرة واعتمادهم عليها، ليعلم أن النصرة والظفر إنما يكون بالله لا بالقوة والكثرة لئلا يعتمدوا على الكثرة ولا يكلوا إليها.

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{فلم تغن}: لم تدفع عنكم شيئا لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لقراركم، {ثم وليتم مدبرين}: انهزمتم. أعلمهم الله تعالى أنهم ليسوا يغلبون بكثرتهم إنما يغلبون بنصر الله...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم، ونسوا فضل الله تعالى، وقالوا لا نغلب اليوم من قلة وُكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم و {مواطن} جمع موطِن بكسر الطاء، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ...

...

وقوله {إذ أعجبتكم كثرتكم} روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال: «لن نغلب اليوم من قلة»، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس، ثم عطف القدر بنصره، وقوله {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها...

وقوله {ثم وليتم مدبرين} يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن، رعاية لمصالح الدين، ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جدا على النفوس والقلوب، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا، وضرب تعالى لهذا مثلا، وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار، وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه، فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن، لأجل مصلحة الدين وتصبيرا لهم عليها، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه، هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن. المسألة الثانية: قال الواحدي: النصر: المعونة على العدو خاصة... المسألة الثالثة: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد بقيت أيام من شهر رمضان، خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفا، وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا عشرة آلاف الذين حضروا مكة، وألفان من الطلقاء، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وبالجملة فكانوا عددا كثيرين، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} وقيل إنه قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل قالها أبو بكر. وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد... {فلم تغن عنكم شيئا} ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله: {فلم تغن عنكم شيئا} أي لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم. والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين. واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع، وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أمورا ثلاثة: أحدها: إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس، ويوجب الأمنة والطمأنينة، وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك، وإذا أمن سكن وثبت، فلما كان الأمن موجبا للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان في بعض النفوس من الغرور بالكثرة ما يكسبها سكرة تغفلها عن بعض مواقع القدرة، ساق قصة حنين دليلاً على ذلك الذي أبهمه من التهديد جواباً لسائل كان كأنه قال: ما ذاك الأمر الذي يتربص لإتيانه ويخشى من عظيم شأنه؟ فقيل: الذل والهوان والافتقار والانكسار، فكأنه قيل: وكيف يكون ذلك؟ فقيل: بأن يسلط القدير عليكم -وإن كنتم كثيراً- أقوياء غيركم وإن كانوا قليلاً ضعفاء كما سلطكم -وقد كنتم كذلك- حتى صرتم إلى ما صرتم إليه {ويوم} أي ونصركم بعد أن قواكم وكثركم هو وحده، لا كثرتكم وقوتكم يوم {حنين} {بما رحبت} أي مع اتساعها فصرتم لا ترون أن فيها مكاناً يحصنكم مما أنتم فيه لفرط الرعب، فما ضاق في الحقيقة إلا ما كان من الآمال التي سكنت إلى الأموال والرجال..

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (27)}

هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنصر الله لهم على أعدائهم في مواطن القتال الكثيرة معهم؛ إذ كان عددهم وعتادهم قليلا لا يرجى معه النصر بحسب الأسباب والعادة، وابتلائه إياهم بالتولي والهزيمة يوم حنين على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك بعناية خاصة من لدنه ليتذكروا أن عنايته تعالى وتأييده لرسوله وللمؤمنين بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوة المادية، كالكثرة العددية وما يتعلق بها، وجعل هذا التذكير تاليا للنهي عن ولاية آبائهم وإخوانهم من الكفار، وللوعيد على إيثار حب القرابة والزوجية والعشيرة-ولو كانوا مؤمنين- والمال والسكن على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، تفنيدا لوسوسة شياطين الجن والإنس ـ من المنافقين ومرضى القلوب ـ لهم وإغرائهم باستنكار عود حالة الحرب مع المشركين وتنفيرهم من قتالهم لكثرتهم، ولقرابة بعضهم، ولكساد التجارة التي تكون معهم، وذلك بعد إقامة الدلائل على كون ذلك من الحق والعدل والمصلحة العامة في الدين والدنيا، وفي هذه الغزوة من العبر والحكم والأحكام ما ليس في غيرها، وسنبين المهم منه في إثر تفسير الآيات.

قال عز وجل:

{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} الظاهر أن هذا الخطاب مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لجماعة المسلمين بالتبع لما قبله وفيهم بقية من المنافقين وضعفاء الإيمان، ولم يعطف عليه لأنه بيان مستأنف لإقامة الحجة على صحة ما قبله من نهي ووعيد، وأن الخير والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وفي إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب أولي القربى والعشيرة والمال والسكن مما يحب للقوة والعصبية وللتمتع بلذات الدنيا، فإن نصر الله تعالى لهم في تلك المواطن الكثيرة لم يكن بقوة عصبية أحد منهم، ولا بقوة المال، وما يأتي به من الزاد والعتاد، وقد ترتب عليه من القوة والعزة والثروة ما لم يكن لهم مثله من قبل، ثم ترتب عليه من السيادة والملك بطاعة الله ورسوله ما هو أعظم من ذلك فيما بعد، ثم يكون له من الجزاء في الآخرة ما هو أعظم وأدوم، وإنما ذلك من فضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بهذا الدين القويم.

والمواطن جمع موطن، وهي مشاهد الحرب ومواقعها، والأصل فيه مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن، ووصفها بالكثيرة لأنها تشمل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر سراياه التي أرسل فيها بعض أصحابه ولم يخرج معهم، ولا يطلق اسم الغزوة ومثلها الغزاة والمغزى إلا على ما تولاه صلى الله عليه وسلم بنفسه من قصد الكفار إلى حيث كانوا من بلادهم أو غيرها... اختار بعض العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون.

ومن المعلوم أنه لم يقع فيها كلها قتال، فيقال: إنه تعالى نصرهم فيها، كما أن من المعلوم أنه تعالى نصرهم في كل قتال إما نصرا عزيزا مؤزّرا كاملا وهو الأكثر، ولا سيما بدر والخندق وغزوات اليهود والفتح، وإما نصرا مشوبا بشيء من التربية على ذنوب اقترفوها كما وقع في أحد؛ إذ نصرهم الله أولا، ثم أظهر العدو عليهم بمخالفتهم أمر القائد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أمر من أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم كما تقدم تفصيله في سورة آل عمران وتفسيرها، وكما كان في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة، والنصر العزيز التام في آخرها وهو ما بينه تعالى بقوله:

{ويوم حنين} أي ونصركم يوم حنين أيضا، وهو واد إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات...

وقوله تعالى: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بدل من يوم حنين، أو عطف بيان له، وحاصل معناه مع ما سبقه أنه نصركم في مواطن كثيرة ما كنتم تطمعون فيها بالنصر بمحض استعدادكم وقوتكم لقلة عددكم وعتادكم، ونصركم أيضا في يوم حنين، وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم؛ إذ كنتم اثني عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، فقال قائلكم معبرا عن رأي الكثيرين الذين غرتهم الكثرة: لن نغلب اليوم من قلة، وقد زعم بعض رواة السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال هذا القول، ورده الرازي بأنه غير معقول، ونرده أيضا بأن المنقول الصحيح خلافه، وهو ما رواه يونس بن بكير في زيادات المغازي عن الربيع بن أنس قال: قال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة. اه أي وقعت بأسبابها، فكانت عقوبة على هذا الغرور والعجب الذي تشير إليه الكلمة، وتربية للمؤمنين، حتى لا يعودوا إلى الغرور بالكثرة؛ لأنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة للنصرة، وما تقدم بيانه من الأسباب المعنوية في سورة الأنفال أعظم، وقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين الكاملين الذين يعلمون قيمة أسباب النصر المعنوية كالصبر والثقة بالله والاتكال عليه {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249] وكذلك وقعت الهزيمة بأسبابها في يوم أحد عقوبة وتربية كما تقدم في محله.

{فلم تغن عنكم شيئا} أي فلم تكن تلك الكثرة التي أعجبتكم وغرتكم كافية لانتصاركم؛ بل لم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة.

{وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي ضاقت عليكم الأرض برحبها وسعتها فلم تجدوا لكم فيها مذهبا ولا ملتحدا.

{ثم وليتم مدبرين} أي وليتم ظهوركم لعدوكم مدبرين لا تلوون على شيء.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك: اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين. فالكلام استئناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق.

وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه: من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية.

وأكّد الكلام ب {قد} لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر.

و {مواطن}: جمع مَوْطِن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة. ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة.

و {يومَ} معطوف على الجار والمجرور من قوله: {في مواطن} فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو {نصركم} والتقدير: ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكانٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين، وليس هذا المراد. ولهذا فالتقدير: في مواطن كثيرة وأيامٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين.

وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب: لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [التوبة: 24] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي: ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.

...فذلك قوله تعالى: {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم، بحال من يرى الأرض الواسعةَ ضيّقةً.

فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله: {بما رحبت} استعير {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} استعارة تمثيلية تمثيلاً لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره، بحال من هو في مكان ضَيِّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه...

والتقدير: ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها: أي في حالة كونها لا ضيق فيها...وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت}: لمْ تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنَّ الأرض ضاقت عليكم، ومنهم من أجمل فقال: أي لشدّة الحال وصعوبتها.

وموقع {ثُم} في قوله: {ثم وليتم مدبرين} موقع التراخي الرتبي، أي: وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين.

والتولّي: الرجوع، و {مدبرين} حال: إمّا مؤكّدة لمعنى {وليتم} أو أريد بها إدبار أخص من التولّي، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب، ويكون للفرّ في حِيل الحروب، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحاً حربياً.