البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

الموطن : الموقف والمقام ، قال الشاعر :

وكم موطن لولاي طحت كما هوى *** بإجرامه من قلة النيق منهوي

ومثله الوطن .

حنين : وادٍ بين مكة والطائف ، وقيل : واد إلى جنب ذي المجاز .

{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } لما تقدم قوله : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم } واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة ، والمواطن مقامات الحرب وموافقها .

وقيل : مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو ، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال :

وكم موطن لولاي طحت كما هوى *** بإجرامه من قلة النيق منهوى

وهذه المواطن : وقعات بدر ، وقريظة والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة .

ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطناً .

وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز .

وصرف مذ هو بابه مذهب المكان ، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال :

نصروا نبيهم وشدّوا أزره *** بحنين يوم تواكل الأبطال

وعطف الزمان على المكان .

قال الزمخشري : وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة ، ويوم حنين .

وقال ابن عطية : ويوم عطف على موضع قوله : في مواطن ، أو على لفظه بتقدير : وفي يوم ، فحذف حرف الخفض انتهى .

وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم ، وإن كان صادراً من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال : لن نغلب اليوم من قلة .

والقائل قال ابن المسيب : هو أبو بكر ، أو سلمة بن سلامة بن قريش ، أو ابن عباس ، أو رجل من بني بكر .

ونقل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه كلام هذا القائل ، ووكلوا إلى كلام الرجل .

والكثرة بفتح الكاف ، ويجمع على كثرات .

وتميم تكسر الكاف ، وتجمع على كثر كشذوة وشذر ، وكسرة وكسر ، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفاً ، وعن النحاس أربعة عشر ألفاً ، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي : اثنا عشر ألفاً ، وعن مقاتل عن ابن عباس : أحد عشر ألفاً وخمسمائة .

والباء في بما رحبت للحال ، وما مصدرية أي : ضاقت بكم الأرض مع كونها رحباً واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكاناً يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب ، فكانها ضاقت عليهم .

والرحب : السعة ، وبفتح الراء الواسع .

يقال : فلان رحب الصدر ، وبلد رحب ، وأرض رحبة ، وقد رحبت رحباً ورحابة .

وقرأ زيد بن علي : بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم ، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرْف .

ثم وليتم مدبرين أي : وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم ، إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله ، فيقول لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه ، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفاً إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم ، وبني كلاب ، وعبس ، وذبيان ، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم ، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري ، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة ، حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها ، فانهزم المسلمون .

قال قتادة : ويقال إنّ الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وبلغ فلهم مكة ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل ، والعباس قد اكتنفه آخذاً بلجامها ، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر ، وعلي بن أبي طالب ، وربيعة بن الحرث ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن ، وقتل بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء من أهل بيته ، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال ، ولهذا قال العباس :

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه *** بما مسه في الله لا يتوجع

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيراً لأبي طلحة وفي يدها خنجر ، ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله ، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال : « شاهت الوجوه » قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا : لم يبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب ، وقال للعباس وكان صيتاً : نادِ أصحاب السمرة ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك ، وانهزم المشركون فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : « هذا حين حمي الوطيس » وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهم على بغلته .

وفي صحيح مسلم من حديث البراء : أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر ، وهو يقول :

« أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك » قال البراء : كنا والله إذا حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم ، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي أول هذا الحديث : « أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ » فقال : اشهد عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ولى .