إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله } الخطابُ للمؤمنين خاصة { في مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } من الحروب وهي مواقعها ومقاماتها والمرادُ بها وقَعاتُ بدر وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والحُدَيبية وخيبَر وفتحُ مكة { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } عطفٌ على محل ( في مواطن ) بحذف المضافِ في أحدهما أي وموطنِ يوم حنين ، أو في أيامِ مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنين ولعل التغييرَ للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثباتِ من أول الأمر وقيل : المرادُ بالموطِن الوقتُ كمقتل الحسين ، وقيل : يومَ حنين منصوبٌ بمضمر معطوفٍ على نصركم أي ونصرَكم يومَ حنين .

{ إِذَ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدلٌ من يومَ حنينٍ ولا منعَ فيه من عطفه على محل الظرفِ بناءً على أنه لم يكن في المعطوف عليه كثرةٌ ولا إعجابٌ إذ ليس من قضية العطفِ مشاركةُ المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوفُ ، أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ ، ( وحنينٌ وادٍ بين مكةَ والطائفِ كانت فيه الوقعةُ بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً ، عشرةُ آلافٍ منهم ممن شهد فتحَ مكةَ من المهاجرين والأنصار وألفانِ من الطلقاء ، وبين هَوازِنَ وثقيفٍ وكانوا أربعةَ آلافٍ فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجمَّ الغفيرَ فلما التَقْوا قال رجلٌ من المسلمين اسمُه سلمةُ بنُ سلامةَ الأنصاري : لن نُغلَبَ اليومَ من قلة فساءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلَّوا الذراريَ فأكبَّ المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حُماة السوء اذكروا الفضائحَ فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمةُ الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } والإغناءُ إعطاءُ ما يُدفع به الحاجةُ أي لم تُعطِكم تلك الكثرةُ ما تدفعون به حاجتَكم شيئاً من الإغناء { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } أي برَحْبها وسعتها على أن ( ما ) مصدريةٌ والباء بمعنى مع أي لا تجِدون فيها مفرّاً تطمئنُّ إليه نفوسُكم من شدة الرعبِ ولا تثبُتون فيها كمن لا يسعه مكان { ثُمَّ وَلَّيْتُم مدْبِرِينَ } رُوي أنه بلغ فَلُّهم مكةَ وبقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمُّه العباسُ آخذاً بلجام بغلته وابنُ عمِّه أبو سفيانَ بنُ الحارث آخذاً بركابه وهو يركُض{[344]} البغلةَ نحو المشركين وهو يقول : " أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابنُ عبد المطلب " . روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يحمِلُ على الكفار فيفِرُّون ثم يحمِلون عليه فيقف لهم فعلَ ذلك بضعَ عشْرَةَ مرة قال العباس : كنت أكُفَّ البغلة لئلا تُسرِعَ به نحوَ المشركين ، وناهيك بهذه الواحدةِ شهادةَ صدقٍ على أنه عليه الصلاة والسلام كان في الشجاعة ورباطةِ الجأش سبّاقاً للغايات القاصيةِ وما كان ذلك إلا لكونه مؤيداً من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال : " يا رب ائتني بما وعدتَني " وقال للعباس وكان صيِّتاً{[345]} : «صِحْ بالناس » فنادى الأنصارَ فخِذاً فخِذاً ثم نادى : يا أصحابَ الشجرةِ يا أصحابَ سورةِ البقرة ، فكرّوا عنقاً{[346]} واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك وذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ } .


[344]:ركض البغلة: استحثها برجله لتعدو.
[345]:الصيت: الشديد الصوت.
[346]:أي جماعة واحدة.