السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

{ لقد نصركم الله } النصرة المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم { في مواطن } أي : أماكن للحرب { كثيرة } كبدر وقريظة والنضير ، والمراد بذلك غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه وبعوثه ، وكانت غزواته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منها ، وأمّا جميع غزواته وسراياه وبعوثه فقيل : سبعون ، وقيل : ثمانون { ويوم } أي : واذكر يوم { حنين } وهو واد بين مكة والطائف أي : يوم قتالكم فيه هوازن وقوله تعالى : { إذ أعجبتكم كثرتكم } بدل من يوم حنين ، وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وقد بقي من شهر رمضان أيام ، وخرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف ، واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ستة عشر ألفاً . وقال الكلبيّ : كانوا عشرة آلاف ، وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفاً ، عشرة آلاف الذين حضروا فتح مكة ، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء ، وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا ، وبالجملة كانوا عدداً كثيراً ، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة إعجاباً بكثرتهم ، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل . وقيل : قائلها أبو بكر رضي الله عنه ، وقيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول بعيد جداً ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان في أحواله كلها متوكلاً على الله تعالى منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها ثم اقتتلوا قتالاً شديداً ، فانهزم المشركون وتخلوا عن الذراري ثم تنادوا : يا حماة السوادة اذكروا الفضائل فتراجعوا وانكشف المسلمون حتى بلغ منهزمهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام بغلته ، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وناهيك بهذا شهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تناهي شجاعته قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم واستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان ، قال البراء : والذي لا إله إلا هو ما ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط قد رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس أخذ بلجام الدابة وهو يقول :

أنا النبيّ لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

فطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يولي ثم قال للعباس : ( وكان صيتاً صح يا عباس ) فنادى : ( يا عباد الله يا أصحاب الشجرة ) وهم أصحاب بيعة الرضوان المذكورون في قوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } ( الفتح ، 18 ) يا أصحاب سورة البقرة قال الطيبي وهم المذكورون في قوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } ( البقرة ، 285 ) وقيل : الذين أنزلت عليهم سورة البقرة فرجعوا جماعة واحدة يقولون : لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال عليه الصلاة والسلام : «هذا حين حمي الوطيس » أي : اشتدّ الحرب ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب فرماهم ثم قال : «انهزموا ورب الكعبة » فانهزموا .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ، ثم أخذ قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل بها وجوههم ، ثم قال : «شاهت الوجوه » . قالت سلمة بن الأكوع : فما خلق الله تعالى منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة ، فولوا مدبرين فهزمهم الله تعالى . { فلم تغن } أي : الكثرة . { عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي : برحبها أي : بسعتها لا تجدون فيها مقراً تطمئن إليه نفوسكم من شدّة الرعب ، ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه . { ثم وليتم مدبرين } أي : الكفار ظهوركم مدبرين أي : منهزمين ، والإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال .