تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

وقوله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ) أي نصركم في مواضع كثيرة ؛ كان فزعكم إلى الله تعالى ونصركم يوم حنين أيضا بعدما هزمكم العدو بإعجابكم [ بكثرتكم التي صرفتكم عن ][ في الأصل وم : الكثرة يصرفكم ] الفزع إلى الله ، ( إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) يعني الكثرة ؛ يذكرهم عز وجل منتهم عليهم وفضله : أن النصرة والظفر متى كان إنما كان بالله لا بكثرتهم وقوتهم ؛ لأنه لو كان [ بالكثرة والقوة ، لم يكن للمسلمين قوة وكثرة ما كان يوم حنين ثم كانت الهزيمة عليهم في الابتداء لإعجابهم بالكثرة واعتمادهم عليها ، ليعلم أن النصرة والظفر إنما يكون بالله لا بالقوة والكثرة لئلا يعتمدوا ][ ساقطة من م ] على الكثرة ، ولا يكلوا إليها .

فإن قيل : قد أمرنا بأخذ العدة والقوة ما استطعنا بقوله : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )الآية[ الأنفال : 60 ] فإنما أمرنا بما يعجنا ، فما معنى النهي عن الإعجاب بالكثرة والقوة ؟ وكذلك نهانا عن التأسي بما فاتنا ، ونهانا أن نفرح بما يؤتينا وقد كلفنا الشكر لما آتانا والصبر على ما فات عنا . فلو لم نفرح بما آتانا لم يكن معناه الشكر ولا الصبر بما فاتنا ، فما معناه ؟

معناه ، والله أعلم ، أنه نهانا أن نفرح بما يؤتينا لنفس الإيتاء ، ونتأسى لنفس ما يصيبنا ويفوتنا ، إنما علينا أن نفرح لفضل الله ومنه الذي من علينا وخصنا ، به وعلى ذلك نشكره ، وعلى ذلك الصبر بما يصيبنا ، ويفوتنا لما جعل لنا لذلك ثوابا في الآخرة وأجرا عظيما .

وكذلك الكثرة أمرنا بها ، فإذا أتانا ذلك يعجبنا فضل الله ومنته في ذلك الكثرة لا الكثرة لنفسها والقوة ، والله أعلم . فإن قيل : الإعجاب بالكثرة كان من بعضهم لا من الكل ، فكيف هزم الكل ؟ وكذلك العصيان يوم حنين إنما كان من بعض ، كيف عاقب الجميع ؟ قيل لأن له أن يتلف الكل ابتداء .

ألا ترى في أمر الواحد القيام لاثنين ؟ ثم في الأمر بالجهاد أمر على غير وسع ؟ ولا كذلك في سائر العبادات ؟ لأنه أمر الواحد القيام لاثنين منهم وليس في وسع أحد القيام لاثنين ؛ فهو والله أعلم ، لما له أن يكلف قتل أنفسهم وإتلافها .

ألا ترى أنه قال : ( ولو أنا كتبنا عليهم ) ؟ الآية[ النساء : 66 ] ولو لم يجز له أن يكتب قتل أنفسهم لم يكن ليذكره دل أن ذلك له ، وأن له أن يميتهم ، ويهلكهم . فعلى ذلك أن يأمر بقتل أنفسهم فإذا كان له ذلك ؛ إذ في وسعهم قتل أنفسهم فعلى ذلك أن يكلف الواحد القيام لاثنين ولعدد ، وإن كان في ذلك تلف أنفسهم .

وكذلك أمرنا بمجاهدة الشيطان عدونا وأخبر أنه يرانا ولا نراه نحن بقوله : ( إنه يراكم هو وقبيله ومن حيث لا تروهم )[ الأعراف : 27 ] والمحاربة مع عدو ، لا نراه ، وهو يرانا ، أمر صعب شديد . لكن علمنا أسباب ما نحارب معه ، ونجاهده ، فنغلبه ، وقال في الشياطين : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله )[ الأعراف : 200 ] وقال : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا )الآية[ الأعراف : 201 ] علمنا أسبابا نقاتل بها الشيطان فنغلبه ، ونقهره ، وما ذكر من ذكره لا يقوم هو لذلك[ من م ، في الأصل : لك ] .

وكذلك قال في العدو الذي نراه من البشر حيث قال : ( إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا )[ الأنفال : 45 ] وقال : ( واصبروا إن الله مع الصابرين )[ الأنفال : 46 ] قد علمنا أسباب الجهاد معه ، وأعلمنا الحيل التي تجيز لواحد القيام لاثنين فصاعدا وإذا لم يكن له الوسع[ في الأصل وم : الواسع ] به بالقوة نفسها ، ثم الفرق بين الجهاد وبين غيره من العبادات لما يحتمل أن جعل الجهاد آية من آيات الحق والرسالة ليعلم الخلائق أن النصر والظفر كان بالله لا بغيره ليظهر الحق من الباطل والمحق من المبطل ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) هذا على التمثيل : يقال عند شدة الحزن والغضب وعند بلوغها ( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) يقال ذلك لسعة الأرض في أوهام الخلق .