تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

مواطن : جمعَ موطن وهو مقر الإنسان ومحل إقامته . والمراد هنا الأماكن التي نصروا فيها .

حُنين : واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من الطائف .

لم تغن عنكم شيئا : لم تنفع ولم تدفع عنكم شيئا .

رحبت : اتسعت .

مدبرين : هاربين .

لقد نصركم اللهُ أيها المؤمنون ، على أعدائكم في كثيرٍ من المواقع بقوة إيمانكم ، وخالصِ نيّاتكم ، لا بكثرةِ عَددكم ولا بقُوتّكم .

وحين غرّتكُم كثرتكم في معركة حُنين ، ترككم اللهُ لأنفسِكم أولَ الأمر ، فلم تنفعْكم كثرتكم ، شيئا ، ولشدّة الخوف والفزَع ضاقت عليكم الأرضُ على اتّساعها ، فلم تجدوا وسيلةً للنجاة إلا الهربَ والفرار من العدوّ ، فولَّيتم منهزمين ، وتركتم رسول الله في قلة من المؤمنين .

وقد كانت وقعة حُنين بعد فتح مكة في شوّال سنة ثمانٍ من الهجرة . فبعد أن فرغ النبيّ من فتحِ مكة ، بلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، كما انضمّ إليهم بنو ثَقيف وبنو جُشم ، وبنو سعد بن بكر ، وبعضُ بني هلال ، وأناس من بني عمرو بن عامر ، وكان أميرهم مالك بن عوف النضري . وكان عدد جيشِ المسلمين عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، مع ألفين من الذين أسلموا من أهل مكة . وكان عدد هوازن ومن معها أربعةَ آلاف مقاتل ، ومعهم نساؤهم وولدانهم وجميع ما يملكون من شاءٍ ونعم .

خرج الرسول الكريم بهذا الجيشِ في غَلَس الصبح ، وانحدروا بوادي حُنين . وكان جيش العدو قد سبقهم إلى احتلال مَضايِقه ، وكَمَن لهم فيها . وما إن وصل المسلمون قلب الوادي ، حتى أمطرهم العدو بوابلٍ من سهامه ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حَمْلَة رجلٍ واحد . فكانت مفاجأة أذهلت المسلمين حتى فرّ معظمهم . وثبت رسول الله وهو راكب بغلته الشهباء وعمُّه العباس آخذٌ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث ابنُ عمّه آخذٌ بركابها الأيسر ، ويحيط به أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والفضل بن العباس ، وأيمن بن أم أيمن ، ونوفل بن الحارث ، والمغيرة بن الحارث ، وربيعة بن الحارث . . وكلّهم أبناء عم الرسول ، وأسامةُ بن زيد وغيرهم نحو مائة رجل ، والنبيّ عليه الصلاة والسلام يدعو المسلمين إلى الرجوع ويقول : ( إليّ يا عبادّ الله ، إليّ أنا رسولُ الله ) ويقول : ( أنا النبيّ لا كذِبْ ، أنا ابنُ عبد المطّلب ) ثم أمر العباسَ بن عبد المطلب ، وكان جهير الصوت ، أن يناديَ بأعلى صوته : يا أصحابَ الشجَرة ، يعني شجرةَ بَيْعة الرّضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها . فجعل العباسُ يناديهم ، وتارة يقول يا أصحاب سورة البقرة . فصار الناس يقولون لبّيك لبيك ، وانعطفوا وتراجعوا إلى رسول الله .

ولما تكامل جمْعُهم شدّوا على الكفار بقوة وصدق وحملوا عليهم فانهزم المشركون . واتّبعهم المسلمون يقتُلون فيهم ويأسرون ، وغنموا جميع ما معهم من نَعَمٍ ونساءٍ وأطفال .

وهكذا التقى الفريقان : المؤمنون بكثرتِهم وقد أعجبتْهم ، والمشركون بقلّتهم العنيفة ، وكان الجولةُ في بدء المعركة للمشرِكين ، لغُرور المسلمين وعدم احتياطهم . ولكن المعركة انتهت بنصر المؤمنين . والعبرة في هذه الغزوة أن الكثرة العددية ليست عاملَ النصر ، وإنما هو القوةُ المعنوية ، والإيمان بالله والصدق والإخلاصُ في العمل .