قال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : هذه أول آية نزلت من [ سورة ]{[13310]} " براءة " .
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله{[13311]} وأن ذلك من عنده تعالى ، وبتأييده وتقديره ، لا بعَددهم ولا بعُددهم ونبههم على أن النصر من عنده ، سواء قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حُنين أعجبتهم كثرتهم ، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أنزل [ الله ]{[13312]} نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم{[13313]} أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت يونس يحدث عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة " .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي{[13314]} ثم قال :{[13315]} هذا حديث حسن غريب ، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم ، وإنما روي عن الزهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا .
وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره ، عن أكثم بن الجون ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه{[13316]} والله أعلم .
وقد كانت وقعة : " حُنين " بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وذلك لما فرغ عليه السلام{[13317]} من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغه أن
هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النَّضْري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جُشم وبنو سعد بن بكر ، وأوزاع من بني هلال ، وهم قليل ، وناس من بني عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، وقد أقبلوا معهم النساء والولدان والشاء والنَّعم ، وجاءوا بقَضِّهم وقَضِيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء{[13318]} معه للفتح ، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء في ألفين أيضا ، فسار بهم إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له " حنين " ، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح ، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم{[13319]} ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد ، كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز وجل{[13320]} وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر ، {[13321]} يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه ، عليه الصلاة والسلام ، ويدعو المسلمين إلى الرجعة [ ويقول ] : " أين يا عباد الله ؟ إليَّ أنا رسول الله " ، ويقول في تلك الحال :
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال : ثمانون ، فمنهم : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما ، والعباس وعلي ، والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم ، رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان ، التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها ، على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة{[13322]} ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة ، فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك ، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع ، لبس درعه ، ثم انحدر عنه ، وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رجعت{[13323]} شرذمة منهم ، أمرهم عليه السلام{[13324]} أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من التراب بعدما دعا ربه واستنصره ، وقال : " اللهم أنجز لي ما وعدتني " ثم رمى القوم بها ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا ، فاتبع{[13325]} المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن عبد الله بن يسار أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن الفهري - واسمه يزيد بن أسيد ، ويقال : يزيد بن أنيس ، ويقال : كُرْز - قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر ، فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي ، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، حان الرواح ؟ فقال : " أجل " . فقال : " يا بلال " فثار من تحت سمرة{[13326]} كأن ظله ظل طائر ، فقال : لبيك وسعديك ، وأنا فداؤك{[13327]} فقال : " أسرج لي فرسي " . فأخرج سرجا دفتاه من ليف ، ليس فيهما أشرٌ ولا بَطَر .
قال : فأسرج ، فركب وركبنا ، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا ، فتشامت الخيلان ، فولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز وجل : ( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عباد الله ، أنا عبد الله ورسوله " ، ثم قال : " يا معشر المهاجرين ، أنا عبد الله ورسوله " . قال : ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه{[13328]} فأخذ كفا من تراب ، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني : أنه ضرب به وجوههم وقال : " شاهت الوجوه " . فهزمهم الله عز وجل . قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم ، عن آبائهم ، أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض ، كإمرار الحديد على الطست{[13329]} الجديد .
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في " دلائل النبوة " من حديث أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة به{[13330]}
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه جابر عن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين ، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه ، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح ، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل ، فاشتدت عليهم ، وانكفأ الناس منهزمين ، لا يُقْبِل أحد عن أحد ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول : " أيها الناس{[13331]} هلموا إليَّ أنا رسول الله ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله " فلا شيء ، وركبت الإبل بعضها بعضا{[13332]} فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس قال : " يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة " . فأجابوه : لبيك ، لبيك ، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيقذف درعه في عنقه ، ويأخذ سيفه وقوسه ، ثم يَؤُمَّ الصوت ، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة ، فاستعرض الناسُ فاقتتلوا ، وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ، ثم جعلت آخرًا بالخزرج{[13333]} وكانوا صُبُرًا عند الحرب ، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه{[13334]} ( فنظر إلى مُجتَلَد القوم ، فقال : " الآن حمي الوَطيس " : قال : فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ملقَون ، فقتل الله منهم من قتل ، وانهزم منهم من انهزم ، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم .
وفي الصحيحين من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، رضي الله عنهما ، أنه قال له رجل : يا أبا عمارة ، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ ، إن هوازن كانوا قوما رُمَاة ، فلما لقيناهم وحَمَلنا عليهم انهزموا ، فأقبل الناس على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، فانهزم الناس ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو يقول :
أنا النبي لا كذب*** أنا ابن عبد المطلب{[13335]}
قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة الوَغَى ، وقد انكشف عنه جيشه ، هو مع ذلك{[13336]} على بغلة وليست سريعة الجري ، ولا تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهرب ، وهو مع هذا{[13337]} أيضًا يركضها إلى وجوههم وينوِّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه ، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ، وما هذا كله إلا ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وعلمًا منه بأنه سينصره ، ويتم ما أرسله به ، ويظهر دينه على سائر الأديان ولهذا قال تعالى : ( ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ )