الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

وقوله سبحانه : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } [ التوبة : 21 ] .

هذه مخاطبةٌ لجميع المؤمنين يعدِّد الله تعالى نِعَمَهُ عليهم ، والمواطِنُ المُشَارُ إلَيْها بَدْرٌ والخَنْدَق والنَّضير وقُرَيْظة وخَيْبَر وغيرها ، و{ حُنَيْنٌ } وادٍ بين مكَّة والطائِف .

وقوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، رُوِيَ أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : حِينَ رَأَى جملته اثني عَشَرَ أَلْفاً : ( لَنْ تُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ ) ، وروي أَنَّ رجلاً من أصحابه قالها فأَراد الله تعالى إظهار العجز ؛ فظهر حين فَرَّ الناسُ .

( ت ) : العجب جائزٌ في حقِّ غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو معصومٌ منه صلى الله عليه وسلم ، والصوابُ في فَهْمِ الحديث ، أَنه خَرَجَ مَخْرَجَ الإِخبار ، لا على وجه العُجْب ؛ وعلى هذا فَهِمُه ابنُ رُشْدٍ وغيره ، وأَنه إِذا بلغَ عَدَدُ المسلمين اثني عشر ألفاً حُرِمَ الفِرَارُ ، وإن زاد عددُ المُشْرِكين على الضِّعْف ؛ وعليه عَوَّلَ في الفتوى ، وقوله تعالى : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } ، معناه : بِرُحْبها ؛ كأنه قال : عَلَى ما هي عليه في نَفْسها رَحْبةً واسعةً ، لشدَّة الحال وَصُعوبتها ؛ ف «مَاء » : مصدرية .

وقوله سبحانه : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } أي : فراراً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، واختصار هذه القصَّة : أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فتَحَ مكَّة ، وكان في عَشَرة ألفاً منْ أصحابه ، وانضاف إِليهم ألفانِ من الطُّلَقَاءِ ، فصار في اثني عَشَرَ أَلفًا ، سمع بذلك كفَّار العرب ، فشَقَّ عليهمِ ، فجمعتْ له هوازنُ وألفافها ، وعليهم مَالِكُ بن عوفٍ النصريُّ ، وثقيفٌ ، وعليهم عبْد يَالِيلَ بْنُ عَمْرُو وانضاف إِليهم أَخلاطٌ مِنَ الناس حتى كانوا ثلاثينَ أَلْفاً ، فخرج إِليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا بحُنَيْنٍ ، فلما تصافَّ الناسُ ، حمل المشركون من مَحَانِي الوادِي ، وانهزم المُسْلِمون ، قال قتادة : وكان يقال : إِن الطلقاء مِنْ أَهْل مكَّةَ فرُّوا ، وقصدوا إِلقَاءَ الهَزيمة في المُسْلمين ، وكان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بغلته البَيْضَاء قد اكَتَنَفَهُ العَبَّاس عمُّه ، وابنُ عَمِّه أبو سفيانَ بْنُ الحارثِ بنِ عبد المُطَّلبِ ، وبَيْنَ يدَيْهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ ، وثَمَّ قتل رحمه اللَّه والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ :

أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ *** أَنا ابن عَبْدِ المُطَّلِبْ

فلما رأَى نبيُّ صلى الله عليه وسلم شدَّةَ الحالِ ، نَزَلَ عن بَغْلَتِهِ إِلى الأرض ؛ قاله البَرَاءُ بنُ عازب ، واستنصر اللَّه عَزَّ وجلَّ ، فأَخَذَ قبضةً مِنْ ترابٍ وحصًى ، فرمَى بها في وُجُوه الكُفَّار ، وقال : «شَاهَت الوُجُوه » ، ونادَى رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالأنصارِ ، وأمَرَ العبَّاسَ أنْ ينادِيَ : ( أَيْنَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ ؟ أَيْنَ أَصْحَابُ سُورَةِ البَقَرةِ ؟ ) فَرَجَعَ النّاسُ عَنَقاً واحداً للحَرْبِ ، وتصافحوا بالسُّيوفِ والطَّعْنِ والضرب ، وهناك قال عليه السلام : ( الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ ) وهزم اللَّهُ المشركين ، وأَعْلَى كلمةَ الإِسلام إِلى يَوْمِ الدينِ ، قال يَعْلَى بن عطاءٍ : فحدَّثني أبناءُ المنهزمين عَنْ آبائهم ، قالوا : لم يَبْقَ منَّا أحَدٌ إِلا دخَلَ عينيه مِنْ ذلك التُّرَابِ ، واستيعابُ هذه القصة في كتب «السِّيَر » .

و{ مُّدْبِرِينَ } : نصب على الحال المؤكِّدة ؛ كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا } البقرة : 91 ] ، والمؤكِّدة هي التي يدلُّ ما قبلها عليها كدلالة التولِّي على الإِدبار .