بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

ثم ما بعد هذا ، نزل بعد فتح مكة وهو قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } ؛ وذلك أنه لما نزل قوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ، فأمرهم الله تعالى بأن يقاتلوا ويتوكلوا على الله ، ويطلبوا النصرة منه ، ولا يعتمدوا على الكثرة والقلة ، لأن النصرة من الله تعالى ؛ فذلك قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } ، يعني : نصركم الله في مواطن كثيرة وهو يوم بدر ، ويوم بني قريظة ، ويوم خيبر ، ويوم فتح مكة ، وخاصة يَوْمَ حُنَيْنٍ . { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، يعني : جماعتكم ، { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } ؛ يعني : عن قضاء الله تعالى كثرتكم شيئاً .

وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين في اثني عشر ألفاً ، وعشرة آلاف التي خرجت معه من المدينة إلى فتح مكة ، وخرج معه ألفان من أهل مكة ، فقال رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلام : لن نغلب اليوم من قلة . وقد كان فتح مكة في شهر رمضان ، وبقيت عليه أيام من رمضان ، فمكث حتى دخل شوال . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني سليم عيناً له يقال له عبد الله بن أبي حدرد ، فأتى حنيناً وكان بينهم يسمع أخبارهم ، فسمع من مالك بن عوف أمير القوم يقول لأصحابه : أنتم اليوم أربعة آلاف رجل ، فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد ، واكسروا جفون سيوفكم فوالله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئاً إلا أفرج لكم .

وكان مالك بن عوف على هوازن ، فأقبل ابن أبي حدرد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بمقالتهم ، فقال رجل من المسلمين : فوالله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نغلب اليوم من كثرة . فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته ، وابتلى الله المؤمنين بكلمته تلك .

قال الفقيه : حدثنا أبو جعفر قال : حدثنا الفقيه ، علي بن أحمد الفارسي قال : حدثنا نصير بن يحيى قال : حدثنا أبو سليمان قال : حدثنا الفقيه ، محمد بن الحسن ، عن مجمع بن يعقوب ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أبي طلحة قال : سمعت أنس بن مالك يقول : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي حنين ، وهو وادي من أودية تهامة له مضايق وشعاب ، فاستقبلنا من هوازن جيش لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط من السواد والكثرة . وقد ساقوا أموالهم ونساءهم وأبناءهم وراءهم ، ثم صفوا فحملوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ، ثم جاؤوا بالإبل والغنم وراء ذلك ، لكيلا يفروا بزعمهم . فلما رأينا ذلك السواد ، حسبناهم رجالاً كلهم . فلما انحدرنا والوادي ، وهو وادي حدور ، فبيَّنا نحن فيه إنَّ شعرنا ، أي ما شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضايق الوادي وشعبه ، فحملوا علينا حملة رجل واحد .

وقد كانت قريش بمكة طلبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا معه إلى حنين ، فلم يقل لهم لا ولا نعم ، فخرجوا وكانوا هم أول من انهزم من الناس قال أنس : فولوا دبرهم وأتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء . فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يقول ، والتفت عن يمينه وعن يساره : «يَا أَنْصَارَ الله وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ ، أَنَا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ صَابِرٌ اليَوْمَ » ، ثم تقدم بحربته . أما الناس ، فوالذي بعثه بالحق ما ضربنا بسيف ولا طعنا برمح ، حتى هزم الله تعالى . ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعسكر ، وأمر بطلبهم وأن يقتل كل من قدر عليه منهم .

وجعلت هوازن تولي وثاب من انهزم من المسلمين . قال الراوي : فقالت أم سليم ، وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب تقول : أرأيت يا رسول الله الذين أسلموا وفروا عنك وخذلوك ، لا تعف عنهم إن أمكنك الله تعالى منهم فاقتلهم ، كما تقتل هؤلاء المشركين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ، عَفْوُ الله أَوْسَعُ » .

وروي في خبر آخر أن دريد بن الصمة ، كان شيخاً كبيراً في عسكر مالك بن عوف ، وكان صاحب تدبير ، وكان لا يبصر شيئاً ما لم ترفع حاجباه .

فقال : ما لي أسمع رغاء الإبل وثغاء الغنم وصوت الصبيان ، فقالوا له : إن مالك بن عوف أمر بإخراج الأموال ، لكي يقاتل كل واحد منهم عن ماله . فقال لهم : هلا أخبرتموني بذلك قبل الخروج . فالرجل إذا جاءته الهزيمة متى يبالي بماله وولده ؟ ولكن إذا فعلتم ذلك فاكسروا جفون سيوفكم ، واحملوا حملة رجل واحد . ففعلوا ذلك ، فانهزم المسلمون ، ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا العباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعدة من الأنصار .

فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته ، وأخذ السيف ومضى نحو العدو ، وجعل ينادي : «يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ البَقَرَةِ إِليَّ إِليَّ » فأمدّه الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة ، ورجع إليه المسلمون ، وانهزم المشركون ، وأخذ المسلمون أموالهم . وهو الذي يسمى يوم أوطاس ، فنزلت هذه الآية { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } فأخبر الله تعالى أن الغلبة ليست بكثرتكم ، ولكن بنصرة الله تعالى ، وكان ذلك من آيات الله . ثم قال { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } ؛ يعني : برحبتها وسعتها من خوف العدو ، { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ؛ يعني : منهزمين لا يلوون على أحد .