معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا} (26)

{ قل الله أعلم بما لبثوا } روي عن علي أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاث مائة شمسية ، والله تعالى ذكر ثلاث مائة قمرية ، والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين ، فيكون في ثلاث مائة تسع سنين ، فلذلك قال : { وازدادوا تسعاً } . { له غيب السماوات والأرض } ، فالغيب ما يغيب عن إدراك ، والله عز وجل لا يغيب عن إدراكه شيء . { أبصر به وأسمع } أي : ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع ! أي : لا يغيب عن سمعه وبصره شيء . { ما لهم } أي : ما لأهل السماوات والأرض ، { من دونه } أي من دون الله ، { من ولي } ناصر ، { ولا يشرك في حكمه أحداً } ، قرأ ابن عامر و يعقوب : { ولا تشرك } بالتاء على المخاطبة والنهي ، وقرأ الآخرون بالياء ، أي : لا يشرك الله في حكمه أحداً . وقيل : { الحكم } هنا علم الغيب ، أي : لا يشرك في علم غيبه أحداً .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا} (26)

قال قتادة ومطر الوراق وغيرهما { ولبثوا في كهفهم } الآية حكاية عن بني إسرائيل أنهم قالوا ذلك ، واحتجا بأن قراءة عبد الله بن مسعود ، وفي مصحفه : «وقالوا لبثوا في كهفهم » ، وذلك عند قتادة ، على غير قراءة عبد الله ، عطف على { ويقولون سبعة } [ الكهف : 22 ] ، ذكر الزهراوي ، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه رداً على مقالهم وتقييداً له ، قال الطبري : وقال بعضهم : لو كان ذلك خبراً من الله ، لم يكن لقوله { قل الله أعلم بما لبثوا } وجه مفهوم .

قال القاضي أبو محمد : أي ذهب بهذا القائل ، وما الوجه المفهوم البارع إلا أن تكون الآية خبراً عن لبثهم ، ثم قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم { قل الله أعلم بما لبثوا } فخبره هذا هو الحق من عالم الغيب فليزل اختلافكم أيها المخرصون ، وقال المحققون : بل قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم ، ثم اختلف في معنى قوله بعد الإخبار { قل الله أعلم بما لبثوا } فقال الطبري : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله نبيه أن هذه المدة في كونهم نياماً ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر ، فأمره الله أن يرد علم ذلك إليه فقوله على هذا التأويل { لبثوا } الأول ، يريد في نوم الكهف ، و { لبثوا } الثاني : يريد بعد الإعثار موتى إلى مدة محمد عليه السلام ، إلى وقت عدمهم بالبلى ، على الاختلاف الذي سنذكره بعد ، وقال بعضها إنه لما قال : { وازدادوا تسعاً } لم يدر الناس أهي ساعات ، أم أيام ، أم جمع ، أم شهور ، أم أعوام . واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمره الله برد العلم إليه ، يريد في التسع فهي على هذا مبهمة ، وظاهر كلام العرب والمفهوم منه أنها أعوام ، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير ، وقد بقيت من الحواريين بقية ، وحكى النقاش ما معناه : أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأمم ، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع ، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية ، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين ، وقرأ الجمهور «ثلاثمائةٍ سنينَ » بتنوين مائة ونصب «سنينَ » على البدل من «ثلاثمائةٍ » ، وعطف البيان ، وقيل على التفسير والتمييز{[7786]} وقرأ حمزة والكسائي ويحيى وطلحة والأعمش بإضافة «مائة » إلى «سنين » ، وترك التنوين ، وكأنهم جعلوا «سنين » بمنزلة سنة ، إذ المعنى بهما واحد قال أبو علي : إذ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب ، قد تضاف إلى الجموع ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «ثلاثمائة سنة » ، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون » ، بالواو ، وقرأ أبو عمرو بخلاف : «تَسعاً » بفتح التاء ، وقرأ الجمهور «تِسعاً » بكسر التاء .

وقوله { أبصر به وأسمع } أي ما أبصره وأسمعه .

قال قتادة : لا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، وهذه عبارات عن الإدراك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أبصر به أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور . وأسمع به العالم ، فتكون أمرين ، لا على وجه التعجب ، وقوله { ما لهم من دونه من ولي } يحتمل أن يعود الضمير في { لهم } على أصحاب الكهف ، أي هذه قدرته وحده ، لم يواليهم غيره بتلطف لهم ، ولا اشترك معه أحد في هذا الحكم ، ويحتمل أن يعود الضمير في { لهم } على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضاً بتهديد ، وقرأ الجمهور «ولا يشرك في حكمه أحداً » بالياء من تحت على معنى الخبر عن الله تعالى ، وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري «ولا تشرك » بالتاء من فوق ، على جهة النهي للنبي عليه السلام ، ويكون قوله «ولا تشرك » عطفاً على { أبصر } { وأسمع } ، وقرأ مجاهد «ولا يشركْ » بالياء من تحت وبالجزم ، قال يعقوب لا أعرف وجهه ، وحكى الطبري عن الضحاك بن مزاحم أنه قال : نزلت هذه الآية : { ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة } فقط ، فقال الناس هي أشهر أم أيام أم أعوام ؟ فنزلت { سنين وازدادوا تسعاً } وأما هل دام أهل الكهف وبقيت أشخاصهم محفوظة بعد الموت ؟ فاختلفت الروايات في ذلك ، فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته ، مع ناس على موضع الكهف وجبله ، فمشى الناس إليه ، فوجدوا عظاماً ، فقالوا هذه عظام أصحاب الكهف ، فقال لهم ابن عباس : أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة فسمعه راهب ، فقال ما كنت أحسب أن أحداً من العرب يعرف هذا ، فقيل له هذا ابن عم نبينا فسكت ، وروت فرقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال «ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف ، فإنهم لم يحجوا بعد » .

قال القاضي أبو محمد : وبالشام على ما سمعت من ناس كثير ، كهف كان فيه موتى ، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف ، وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ، ومعهم كلب رمة ، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة ، كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد انجرد لحمه ، وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم إشارة ، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة ، وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر محلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حزنة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب في قبور ونحوها .

قال القاضي أبو محمد : وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل .


[7786]:وحكى أبو البقاء أن قوما أجازوا أن يكون [سنين] بدلا من [مائة]؛ لأن [مائة] في معنى (مئات). وقال أبو حيان الأندلسي في (البحر الوسيط): "فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين، وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن (مائة) لا يفسر إلا بمفرد مجرور، وأن ما سمع من قولهم: "إذا عاش الفتى مائتين عاما" من الضرورات، ولاسيما وقد انضاف إلى ذلك كون [سنين] جمعا".

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا} (26)

إن كان قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } [ الكهف : 25 ] إخباراً مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } قطعاً للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب ، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم .

وإن كان قوله : { ولبثوا } حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } تفويضاً إلى الله في علم ذلك كقوله : { قل ربي أعلم بعدتهم } [ الكهف : 22 ] .

وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم . واللام في { له } للملك . وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص ، أي لله لا لغيره ، رداً على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم .

و { أبصر به وأسمع } صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات ، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد .

وضمير الجمع في قوله : { ما لهم من دونه من ولي } يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم . وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول ( من ) الزائدة على النكرة المنفية .

وكذلك قوله : { ولا يشرك في حكمه أحداً } هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه .

وقرأ الجمهور { ولا يشرك } برفع { يشرك } وبياء الغيبة . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { قل الله أعلم } . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و { يشرك } على أن ( لا ) ناهية . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته ، أو الخطاب لكل من يتلقاه .

وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها ، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها .