مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا} (26)

ثم قال : { قل الله أعلم بما لبثوا } معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها ، وإنما كان أولى بأن يكون عالما به لأنه موجد للسماوات والأرض ومدبر للعالم ، وإذا كان كذلك كان عالما بغيب السماوات والأرض فيكون عالما بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى : { أبصر به وأسمع } وهذه كلمة تذكر في التعجب ، والمعنى ما أبصره وما أسمعه ، وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { فما أصبرهم على النار } ثم قال تعالى : { ما لهم من دونه من ولي } وفيه وجوه . الأول : ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل . الثاني : ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه .

الثالث : أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالا على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب ، فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم . ثم قال : { ولا يشرك في حكمه أحدا } والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولا بخلافه . والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعا لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده . وحاصله يرجع إلى قوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى : { ولا يشرك في حكمه أحدا } وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفا على قوله : { ولا تقولن لشيء } أو على قوله : { واذكر ربك إذا نسيت } والمعنى ولا تسأل أحدا عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحدا في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك .

المسألة السابعة : اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم ، أما الزمان الذي حصلوا فيه ، فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة ، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم ، وقيل : إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح ، وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحق . وقال قوم : إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة . وأما مكان هذا الكهف ، فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم ، قال : فوجه ملك الروم معي أقواما إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه ، قال : وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم ، قال : فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره ، ثم قال القفال : والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر ، والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف ، وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك ، فقال : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ، فقال لابن عباس : لا أنتهي حتى أعلم حالهم ، فبعث أناسا فقال لهم : اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم ، وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال ، وإنما يستفاد ذلك من نص ، وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه .

المسألة الثامنة : اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة . أحدها : أنه تعالى قادر على كل الممكنات . والثاني : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات . وثالثها : أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة ، فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل ، وثبت أن بقاء الإنسان حيا في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلاثمائة سنة يجب أن يكون ممكنا بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة . وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضا : لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة ، وأقول : هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة ، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلاثمائة سنة وأزيد وهو أيضا حالة عجيبة ، وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضا حالة عجيبة . والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها . ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ، ثم قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف .