معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

قوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } من مثل خلقكم حلائل . قيل : إنما قال : من أنفسكم لأنه خلق حواء من ضلع آدم . { ومن الأنعام أزواجاً } أصنافاً ذكوراً وإناثاً ، { يذرؤكم } يخلقكم ، { فيه } أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : على هذا الوجه من الخلقة . قال مجاهد : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام . وقيل : " في " ، بمعنى الباء ، أي : يذرؤكم به . وقيل : معناه يكثركم بالتزويج . { ليس كمثله شيء } مثل صلة ، أي : ليس هو كشيء ، فأدخل " المثل " للتوكيد ، كقوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } ( البقرة-137 ) ، وقيل : " الكاف " صلة ، مجازه : ليس مثله شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس له نظير . { وهو السميع البصير }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

وهو { فاطر السماوات والأرض } ، أي مخترعها وخالقها شق بعضها من بعض .

وقوله تعالى : { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يريد : زوج الإنسان الأنثى ، وبهذه النعمة اتفق الَّذْرُء ، وليست الأزواج هاهنا الأنواع ، وأما الأزواج المذكورة مع الأنعام ، فالظاهر أيضاً والمتسق : أنه يريد : إناث الذكران ، ويحتمل أن يريد الأنواع ، والأول أظهر .

وقوله : { يذرؤكم } أي يخلقكم نسلاً بعد نسل وقرناً بعد قرن ، قاله مجاهد والناس ، فلفظة ذرأ : تزيد على لفظة : خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان .

وقوله : { فيه } الضمير عائد على الجعل الذي يتضمنه قوله : { جعل لكم } ، وهذا كما تقول : كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه . وقال القتبي : الضمير للتزويج ، ولفظة : «في » مشتركة على معان ، وإن كان أصلها الوعاء وإليه يردها النظر في كل وجه .

وقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } الكاف مؤكدة للتشبيه ، فبقي التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمرو ، فأذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، ومن هذا قول أوس بن حجر : [ المتقارب ]

وقتلى كمثل جذوع النخي . . . ل يغشاهمُ سيل منهمر{[10113]}

ومنه قول الآخر : [ البسيط ]

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهمُ . . . ما إن كمثلهم في الناس من أحد{[10114]}

فجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وتفترق الآية مع هذه الشواهد متى أردت أن تتبع بذهنك هذا اللفظ فتقدر للجزوع مثلاً موجوداً وتشبه القتل بذلك المثل أمكنك أو لا يمكنك هذا في جهة الله تعالى إلا أن تجعل المثل ما يتحصل في الذهن من العلم بالله تعالى ، إذ المثل والمثال واحد ، وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى : ليس كهو شيء . وقالوا لفظة مثل في الآية توكيد أو واقعة موقع هو{[10115]} .

قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد دخول الكاف تأكيداً أنها قد تدخل على الكاف نفسها ، وأنشد سيبويه :

وصاليات ككما يؤثفين . . . {[10116]}


[10113]:البيت من قصيدة قالها أوس بن حجر في حرب كانت بين قومه من بني تميم وبين أسد وغنى، وفيه يصف نتيجة المعركة التي تركت القتلى من بني أسد كجذوع النخل التي غطاها السيل المنهمر من المطر، والجذوع جمع جذع وهو ساق النخلة، ومعنى تغشاهم: غطاهم وغمرهم، والمسبل: المطر، وفي الحديث: (فجاء بالماء جوني له سبل) أي مطر جود هاطل، وابن عطية يستشهد بالبيت على أن التشبيه يكون بالكاف وبكلمة مثل معا عند إرادة المبالغة التامة، وذلك أنه يجوز أن تشبه فتقول: قتلى كجذوع النخيل، ويجوز أن تقول: قتلى مثل جذوع النخيل، فإذا أردت المبالغة التامة قلت: قتلى كمثل جذوع النخيل. وهذا هو ما جاء في الآية الكريمة، إذ اجتمع في التشبيه الكاف ومثل زيادة في المبالغة مع نفي ذلك، فالنفي هنا أوكد ما يكون.
[10114]:وهذا أيضا شاهد على أنه يجمع في الكلام بين لفظين يؤديان معنى واحدا للتأكيد، وفي هذا البيت أدخل الشاعر على (ما) وهي حرف جحد (إن) وهي حرف جحد أيضا، وساغ ذلك لاختلاف لفظ كل منهما عن الآخر، وإن اتفق المعنى. والشاعر في البيت يمدح (سعد بن زيد)، وينفي أن يكون في الناس أحد مثلهم.
[10115]:الفرق بين القولين أن كلمة (مثل) فيما ذكر الطبري هي التي دخلت للتوكيد، وأداة التشبيه الأصلية هي الكاف، أما القول الأول ففيه أن (الكاف) هي التي دخلت للتوكيد، وأداة التشبيه الأصلية هي (مثل)، على أن الطبري قد ذكر القولين، واستشهد لكل منهما، وقد اختلفت الرؤية بالنسبة للشواهد، فما اعتبره بعضهم شاهدا للقول الأول اعتبره غيره شاهدا للقول الثاني، والشواهد تصلح لذلك. هذا وقد ذكر صاحب البحر المحيط أن العرب تقول: (مثلك لا يفعل كذا)، يريدون به المخاطب، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل المخاطب كان نفيا عن المخاطب نفسه، وهو من باب المبالغة، فجرت الآية في ذلك على نهج العرب من إطلاق المثل على الشيء نفسه، ثم علق على كلام الطبري الذي جعل كلمة (مثل) زائدة للتوكيد، وجعلها كالكاف في قول الشاعر: (وصاليات ككما يؤثفين)- علق على هذا بقوله: (ليس بجيد، لأن (مثلا) اسم والأسماء لا تزاد، بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة.
[10116]:هذا بيت من أبيات من بحر السريع، نسبها في خزانة الأدب إلى خطام المجاشعي، ونسبها الصقلي- في شرحه أبيات الإيضاح للفارسي- وكذلك الجوهري في الصحاح، نسبها إلى هميان بن قحافة، والأبيات في خزانة الأدب، وفي هوامش الجزء الأول من (سر صناعة الإعراب) لابن جني. وقد قال محقق تفسير الطبري: إنها من مشطور الرجز، وقال في خزانة الأدب: (ربما حسب من لا يحسن العروض أنها من الرجز، لأن الرجز لا يكون فيه معولات فيرد إلى فعولات). والصاليات: أراد بها الأثافي لأنها صليت بالنار، أي أحرقت حتى اسودت، وقد روي البيت (وما ثلاث) بدلا من (وصاليات)، ومعنى ما ثلاث: منتصبات. و(يؤثفين) وزنه (يؤفعلن) والهمزة زائدة، وقيل: وزنه (يفعلين) فالهمزة أصل، ومعنى الكلمة: يجعلن أثافي للقدر، وهي جمع أثفية. وموضع الشاهد في البيت قوله: (ككما)، والكاف الأولى جارة والثانية مؤكدة لها، وقال الزمخشري: (وعلى هذا يجوز أن يكون الكاف اسمين أو حرفين)، وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: (أجرى الكاف الجارة- وهي الثانية- مجرى (مثل) فأدخل عليها كافا ثانية، فكأنه قال: (كمثل ما يؤثفين) و(ما) مع الفعل بتقدير المصدر، كأنه قال: كمثل إثفائها، أي: إنها على حالها حين أثفيت، ويرى الفارسي أنها يجوز أن تكون موصولة، وخلاصة القول أن الكاف دخلت على الكاف للتوكيد، والذي أنشد البيت شاهدا على ذلك هو سيبويه في الكتاب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرُ السماوات والأرض ِ } .

خبر ثانٍ عن الضمير في قوله تعالى : { وهو على كل شيء قدير } [ الشورى : 9 ] ، وما بينهما اعتراض كما علمت آنفاً أُعقب به أنه على كل شيء قدير ، فإن خلق السماوات والأرض من أبرز آثار صفة القدرة المنفرد بها .

والفاطر : الخالق ، وتقدم في أوّل سورة فاطر ( 1 ) .

{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فيه } .

جملة في موضع الحال من ضمير { فاطر } لأن مضمونها حال من أحوال فَطْر السماوات والأرض فإن خلق الإنسان والأنعام من أعجب أحوال خلق الأرض . ويجوز كونها خبراً ثالثاً عن ضمير { وهو على كل شيء قدير } [ الشورى : 9 ] .

والمعنى : قَدَّر في تكوين نوع الإنسان أزواجاً لأفراده ، ولما كان ذلك التقدير مقارناً لأصلِ تكوين النوع جيء فيه بالفعل الماضي .

والخطاب في قوله : { لكم } للنّاس كلّهم . والخطاب التفات من الغيبة . واللام للتعليل . وتقديم { لكم } على غيره من معمولات { جعل } ليُعرف أنه معمول لذلك الفعل فلا يتوهم أنه صفة ل { أزواجاً } ، وليكون التعليل به ملاحظاً في المعطوف بقوله { ومن الأنعام أزواجاً } .

والأزواج : جمع زوج وهو الذي ينضمُّ إلى فرد فيصير كِلاهما زوجاً للآخر والمراد هنا : الذكور والإناث من النّاس ، أي جعَل لمجموعكم أزواجاً ، فللذكور أزواج من الإناث ، وللنساء أزواج من الرّجال ، وذلك لأجْل الجميع لأن بذلك الجعل حصلت لذة التأنس ونعمة النسل .

ومعنى { من أنفسكم } من نوعكم ، ومن بعضكم ، كقوله : { فسلّموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] . وكون الأزواج من أنفسهم كمال في النعمة لأنه لو جعل أحد الزوجين من نوع آخر لفات نعيم الأنس ، وأما زعم العرب في الجاهلية أن الرجل قد يتزوج جنيَّة أو غُولاً فذلك من التكاذيب وتخيلات بعضهم ، وربّما عرض لبعض النّاس خبَال في العقل خاصّ بذلك فتخيل ذلك وتحدث به فراج عن كل أبْلَه .

وقوله : { ومن الأنعام أزواجاً } عطف على { أزواجاً } الأول فهو كمفعول ل { جعل } والتقدير : وجعل من الأنعام أزواجاً ، أي جعل منها أزواجاً بعضها لبعض . وفائدة ذكر أزواج الأنعام دون أزواج الوحش : أن في أنواع الأنعام فائدة لحياة الإنسان لأنها تعيش معه ولا تنفر منه وينتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونسلها وعملها من حمْل وحرث ، فبِجَعْلها أزواجاً حصل معظم نفعها للإنسان .

والذرءُ : بث الخلق وتكثيره ، ففيه معنى توالي الطبقات على مرّ الزمان إذ لا منفعة للنّاس من أزواج الأنعام باعتبارها أزواجاً سوى ما يحصل من نسلها .

وضمير الخطاب في قوله : { يذرؤكم } للمخاطبين بقوله : { جعل لكم } . ومرادُ شموله لجعل أزواج من الأنعام المتقدم ذكره لأن ذكر أزواج الأنعام لم يكن هَمَلاً بل مراداً منه زيادة المنّة فإن ذَرْءَ نسل الإنسان نعمة للنّاس وذَرْء نسل الأنعام نعمة أخرى للنّاس ، ولذلك اكتفى بذكر الأزواج في جانب الأنعام عن ذكر الذرء إذ لا منفعة للناس في تزاوج الأنعام سوى ما يحصل من نسلها .

وإذ كان الضمير ضمير جماعة العقلاء وكان ضميرَ خطاب في حين أن الأنعام ليست عقلاء ولا مخاطبة ، فقد جاء في ذلك الضمير تغليب العقلاء إذ لم يذكر ضمير صالح للعقلاء وغيرهم كأن يقال : يذراككِ بكسر الكاف على تأويل إرَادة خطاب الجماعة .

وجاء فيه تغليب الخطاب على الغيبة ، فقد جاء فيه تغليبان وهو تغليب دقيق إذ اجتمع في لفظ واحد نوعان من التغليب كما أشار إليه الكشاف والسكاكي في مبحث التغليب من « المفتاح » .

وضمير { فيه } عائد إلى الجَعْل المفهوم مِن قوله { جعل لكم } ، أي في الجعل المذكور على حدّ قوله : { اعدِلُوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] . وجيء بالمضارع في { يذرؤكم } لإفادة التجدد والتجدُّد أنسب بالامتنان .

وحرف ( في ) مستعار لمعنى السببية تشبيهاً للسبب بالظرف في احتوائه على مسبباته كاحتواء المنبع على مائه والمعدن على ترابه ومثله قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السميع البصير } .

خبر ثالث أو رابع عن الضمير في قوله : { وهو على كل شيء قدير } [ الشورى : 9 ] . ومَوقع هذه الجملة كالنتيجة للدليل فإنه لما قُدم ما هو نِعمٌ عظيمة تبيَّن أن الله لا يماثِله شيء من الأشياء في تدبيره وإنعامه .

ومعنى { ليس كمثله شيء } ليس مثلَه شيء ، فأقحمت كاف التشبيه على ( مِثل ) وهي بمعناهُ لأن معنى المِثْل هو الشبيه ، فتعيّن أن الكاف مفيدة تأكيداً لمعنى المِثل ، وهو من التأكيد اللّفظي باللّفظ المرادف من غير جنسه ، وحسَّنه أن الموكِّد اسم فأشبه مدخول كاف التشبيه المخالف لمعنى الكاف فلم يكن فيه الثقل الذي في قول خِطام المجاشعي :

وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ{[368]}

وإذ قد كان المثل واقعاً في حيّز النفي فالكاف تأكيد لنفيه فكأنَّه نُفِي المثلُ عنه تعالى بجملتين تعليماً للمسلمين كيف يُبطلون مماثلة الأصنام لله تعالى . وهذا الوجه هو رأي ثعْلب وابن جنِّي والزجّاج والراغب وأبي البقاء وابن عطية .

وجعله في « الكشاف » وجهاً ثانياً ، وقدّم قبله أن تكون الكاف غير مزيدة ، وأن التقدير : ليس شبيه مثله شيء والمراد : ليس شبه ذاته شيء ، فأثبت لذاته مثلاً ثم نفَى عن ذلك المثل أن يكون له مماثل كنايةً عن نفي المماثل لذات الله تعالى ، أي بطريق لازم اللازم لأنه إذا نفي المِثْل عن مِثْله فقد انتفى المثل عنه إذ لو كان له مثل لما استقام قولك : ليس شيء مثلَ مثلِه . وجعله من باب قول العرب : فلان قد أيفعت لِدَاتُه ، أي أيفع هو فكُني بإيفاع لِدَاته عن إيفاعه . وقول رُقَيْقَةَ بنتتِ صَيفي{[369]} في حديث سُقيا عبد المطلب " ألاَ وفيهم الطَّيِّبُ الطاهرُ لداتُه " اه . أي ويكون معهم الطيّبُ الطاهرُ يعني النبي صلى الله عليه وسلم

وتبعه على ذلك ابن المنير في « الانتصاف » ، وبعض العلماء يقول : هو كقولك ليس لأخي زيد أخ ، تريد نفي أن يكون لزيد أخ لأنه لو كان لزيد أخ لكان زيد أخا لأخيه فلما نَفَيتَ أن يكون لأخيه أخ فقد نَفيتَ أن يكون لزيد أخ ، ولا ينبغي التعويل على هذا لما في ذلك من التكلّف والإبهام وكلاهما مما ينبو عنه المقام .

وقد شملَ نفيُ المماثلة إبطالَ ما نسبُوا لله البناتتِ وهو مناسبة وقوعِه عقب قوله : { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } الآية .

وحديثُ سقيا عبد المطلب ، أي خبر استسقائه لقريش أن رقيقة بنت أبي صيفي قالت : تتابعتْ على قريش سنون أقحلت الضرعَ وأدَقَّتْ العَظم ، فبينا أنا نائمة إذا هاتف يهتف : « يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه ألاَ فانظروا رجلاً منكم وَسيطاً عُظَاما جُسَاماً أبيضَ أَوْطَف الأهداب سهل الخدّين أشمّ العرين فليخلص هو وولده ، ألا وفيهم الطيّبُ الطَاهرُ لداته وليهبط إليه من كل بطن رجل فليشنُوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليرتقُوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمنوا فعثتم ما شئتم » الخ . قالوا : وكان معهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ غلام .

واعلم أن هذه الآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مثلاً لله تعالى . والمثل يُحمل عند إطلاقه على أكمل أفراده ، قال فخر الدّين « المثلان : هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته » اه . فلا يسمّى مثلاً حقاً إلا المماثل في الحقيقة والماهية وأجزائها ولوازمها دون العوارض ، فالآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مماثلاً لله تعالى في صفات ذاته لأن ذات الله تعالى لا يماثلها ذواتُ المخلوقات ، ويلزم من ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقات في محسوس ذواتها فهو منتففٍ عن ذات الله تعالى . وبذلك كانت هذه الآية أصلاً في تنزيه الله تعالى عن الجوارح والحواسّ والأعضاء عند أهل التأويل والذين أثبتوا لله تعالى ما ورد في القرآن مما نسميه بالمتشابه فإنما أثبتوه مع التنزيه عن ظاهره إذ لا خلاف في إعمال قوله : { ليس كمثله شيء } وأنه لا شبيه له ولا نظير له .

وإذ قد اتفقنا على هذا الأصل لم يبق خلاف في تأويل النصوص الموهمة التشبيه ، إلاّ أن تأويل سلفنا كان تأويلاً جُمْليًّا ، وتأويلَ خلفهم كان تأويلاً تفصيليًّا كتأويلهم اليدَ بالقدرة ، والعَينَ بالعلم ، وبَسْطَ اليدين بالجُود ، والوجْهَ بالذات ، والنزولَ بتمثيل حال الإجابة والقبول بحال نزول المرتفع من مكانه الممتنع إلى حيث يكون سائلوه لينيلهم ما سألوه . ولهذا قالوا : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم .

ولما أفاد قوله : { ليس كمثله شيء } صفاتتِ السُلوببِ أعقب بإثبات صفة العِلم لله تعالى وهي من الصفات المعنوية وذلك بوصفه ب { السميع البصير } الدّالين على تعلّق علمه بالموجودات من المسموعات والمبصرات تنبيهاً على أن نفي مماثلة الأشياء لله تعالى لا يتوهّم منه أن الله منزّه عن الاتصاف بما اتصفت به المخلوقات من أوصاف الكمال المعنوية كالحياة والعلم ولكن صفات المخلوقات لا تشبه صفاته تعالى في كمالها لأنها في المخلوقات عارضة ، وهي واجبة لله تعالى في منتهى الكمال ، فكونه تعالى سميعاً وبصيراً من جملة الصفات الداخلة تحت ظلال التأويل بالحمل على عموم قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } فلمْ يقتضيا جارحتين . ولقد كان تعقيب قوله ذلك بهما شبيهاً بتعقيب المسألة بمثالها .


[368]:- رجز وقبله: لم يبق من آي بها تحيين *** غير حطام ورمادي كفتين
[369]:- هي رقيقة بقافين بصيغة التصغير بنت صيفي ( والصواب أبي صيفي) بن هشام بن عبد المطلب.