الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

قوله : { فَاطِرُ } : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل " ذلكم " أو نعتاً ل " ربِّي " على تَمَحُّضِ إضافتِه . و " عليه توكَّلْتُ " معترضٌ على هذا ، أو مبتدأ ، وخبرُه " جَعَلَ لكم " أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو . وزيد بن علي : " فاطرِ " بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله : " إلى اللَّهِ " ، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في " عليه " أو " إليه " .

وقال مكيٌّ : " وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء " . وقال غيرُه : على المدح . ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في " عليه " . قلت : قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي . وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً .

قوله : " يَذْرَؤُكُمْ فيه " يجوزُ أَنْ تكونَ " في " على بابِها . والمعنى : يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير ، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ . والضميرُ في " يَذرَؤُكم " للمخاطبين والأنعامِ . وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ . قال الزمخشري : " وهين الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن " . قال الشيخ : " وهو اصطلاحٌ غريبٌ ، ويعني : أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا " . ثم قال الزمخشريُّ : " فإنْ قلت : ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به . قلت : جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ . ألا تَراك تقول : للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . والثاني : أنها للسببية كالباء أي : يُكَثِّرُكم بسبِبه . والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ " .

قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدُها - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس ، و " شيءٌ " اسمُها . والتقدير : ليس شيءٌ مثلَه . قالوا : ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ . وهو مُحالٌ ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف : ليس مثلَ مثلِه شيءٌ ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه ، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً ، لا مثلَ لذلك المَثَلِ ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك .

وقال أبو البقاء : " ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال ؛ إذ كان يكونُ المعنى : أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ . وفي ذلك تناقضٌ ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو ، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ " . قلت : وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ .

والثاني : أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى :

{ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] . قال الطبري : " كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله :

3966 وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ ***

وقولِ الآخر :

3967 - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ ***

وهذا ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ . وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ .

الثالث : أنَّ العربَ تقولُ " مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا " يعْنُون المخاطبَ نفسَه ؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب ، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه ، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها . ومنه قول الشاعر :

3968 على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه *** وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا

وقال أوس بن حجر :

3969 ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ *** خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ

وقال آخر :

3970 سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ *** فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ

قال ابن قتيبة : " العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول : مثلي لا يُقال له هذا ، أي : أنا لا يُقال لي " . قيل : و[ نظيرُ ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك : فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد ، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }

[ المائدة : 64 ] .

الرابع : أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ ، كقولِه تعالى : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } [ الرعد : 35 ] فيكونُ المعنى : ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه ، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ .