البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

وقرأ الجمهور : { فاطر } بالرفع ، أي هو فاطر ، أو خبر بعد خبر كقوله : { ذلكم } .

وقرأ زيد بن عليّ : فاطر بالجر ، صفة لقوله : { إلى الله } ، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف .

{ جعل لكم من أنفسكم } : أي من جنس أنفسكم ، أي آدميات ، { أزواجاً } : إناثاً ، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجاً له خلقاً لنا ، { ومن الأنعام أزواجاً } : أي أنواعاً كثيرة ، ذكوراً وإناثاً ، أو أزواجاً إناثاً .

{ يذرؤكم فيه } ، قال ابن عباس : أي يجعل لكم فيه معيشية تعيشون بها .

وقال ابن زيد : يرزقكم فيه ، وهو قريب من القول قبله .

وقال مجاهد : يخلقكم في بطون الإناث .

وقال ابن زيد أيضاً : يذرأكم فيما خلق من السموات والأرض .

وقال الزجاج : يكثركم به ، أي فيه ، أي يكثركم في خلقكم أزواجاً .

وقال عليّ بن سليمان : ينقلكم من حال إلى حال .

وقال ابن عطية : الضمير في فيه للجعل ، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل ، كما تقول : كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه ، قال : ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان .

وقال الزمخشري : { يذرؤكم } : يكثركم ، يقال ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم ، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل .

والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغير مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين . انتهى .

وقوله : وهي من الأحكام ذات العلتين ، اصطلاح غريب ، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول : أنت وزيد تقومان ؛ والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا ، فتقول : الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم .

قال الزمخشري ؛ فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ وهلا قيل : يذرؤكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير .

ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير ؟ كما قال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } انتهى .

{ ليس كمثله شيء } ، تقول العرب : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون به المخاطب ، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفياً عن الشخص ، وهو من باب المبالغة ، ومثل الآية قول أوس بن حجر :

ليس كمثل الفتى زهير *** خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر :

وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر . . .

وقال آخر :

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم *** ما إن كمثلهم في الناس من أحد

فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء .

وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلاً زائدة للتوكيد كالكاف في قوله :

فأصبحت مثل كعصف مأكول . . .

وقوله :

وصاليات ككما يؤثفين . . .

ليس بجيد ، لأن مثلاً اسم ، والأسماء لا تزاد ، بخلاف الكاف ، فإنها حرف ، فتصلح للزيادة .

ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلان يده مبسوطة ، يريد أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له ، كقوله : { بل يداه مبسوطتان } فكما جعلت ذلك كناية عن الجواد فيمن لا يد له ، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذوات في من لا مثل له .

ويحتمل أيضاً أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك سائغ ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة ، فيكون المعنى : ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره ، وهذا محمل سهل ، والوجه الأول أغوص .

قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثال مقام النفس ، فيقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي أنا لا يقال لي هذا . انتهى .

فقد صار ذلك كناية عن الذات ، فلا فرق بين قولك : ليس كالله شيء ، أو ليس كمثل الله شيء .

وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلاً منهما يراد به التشبيه ، وذلك محال ، لأن فيه إثبات مثل لله تعالى ، وهو محال .

{ وهو السميع } لأقوال الخلق ، { البصير } لأعمالهم .