فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرَ السموات والأرض } قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر آخر لذلكم ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ وخبره ما بعده ، أو نعت لربي ؛ لأن الإضافة محضة ، ويكون { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } معترضاً بين الصفة والموصوف . وقرأ زيد بن عليّ : { فاطر } بالجرّ على أنه نعت للاسم الشريف في قوله : { إِلَى الله } ، وما بينهما اعتراض ، أو بدل من الهاء في عليه أو إليه ، وأجاز الكسائي النصب على النداء ، وأجازه غيره على المدح . والفاطر : الخالق المبدع ، وقد تقدّم تحقيقه { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي خلق لكم من جنسكم نساء ، أو المراد : حوّاء لكونها خلقت من ضلع آدم . وقال مجاهد : نسلاً بعد نسل { وَمِنَ الأنعام أزواجا } أي وخلق للأنعام من جنسها إناثاً ، أو وخلق لكم من الأنعام أصنافاً من الذكور ، والإناث ، وهي : الثمانية التي ذكرها في الأنعام { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي يبثكم ، من الذرء وهو البثّ ، أو يخلقكم ، وينشئكم ، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين ، والأنعام إلاّ أنه غلب فيه العقلاء ، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل . وقيل : راجع إلى ما ذكر من التدبير ، وقال الفراء والزجاج ، وابن كيسان : معنى يذرؤكم فيه : يكثركم به ، أي : يكثركم بجعلكم أزواجاً ؛ لأن ذلك سبب النسل . وقال ابن قتيبة : يذرؤكم فيه ، أي : في الزوج . وقيل : في البطن . وقيل : في الرحم . { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } المراد بذكر المثل هنا : المبالغة في النفي بطريق الكناية ، فإنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود . وقيل : إن الكاف زائدة للتوكيد ، أي ليس مثله شيء . وقيل : إن مثل زائدة قاله ثعلب ، وغيره كما في قوله : { فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] أي بما آمنتم به ، ومنه قول أوس بن حجر :

وقتلى كمثل جذوع النخي *** ل يغشاهم مطر منهمر

أي : كجذوع ، والأوّل أولى ، فإن الكناية باب مسلوك للعرب ، ومهيع مألوف لهم ، ومنه قول الشاعر :

ليس كمثل الفتى زهير *** خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر :

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه *** وإن بات من ليلى على اليأس طاويا

وقال آخر :

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم *** فما كمثلهم في الناس من أحد

قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثل مقام النفس ، فتقول مثلي لا يقال له هذا ، أي : أنا لا يقال لي . وقال أبو البقاء مرجحاً لزيادة الكاف : إنها لو لم تكن زائدة ، لأفضى ذلك إلى المحال ، إذ يكون المعنى : أن له مثلاً ، وليس لمثله مثل ، وفي ذلك تناقض ، لأنه إذا كان له مثل ، فلمثله مثل ، وهو : هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال ، وهذا تقرير حسن ، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجاً مخرج الكناية ، ومن فهم هذه الآية الكريمة حقّ فهمها ، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة ، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله : { وَهُوَ السميع البصير } ، فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للماثل قد اشتمل على برد اليقين ، وشفاء الصدور ، وانثلاج القلوب ، فاقدر يا طالب الحقّ قدر هذه الحجة النيرة ، والبرهان القويّ ، فإنك تحطم بها كثيراً من البدع ، وتهشم بها رؤوساً من الضلالة ، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين ، ولاسيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ، فإنك حينئذٍ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام ، وعلم أصول الدين :

ودع عنك نهبا صيح في حجراته *** ولكن حديث ما حديث الرواحل

/خ12