تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

الآية 11 ثم نعته ، فقال : { فاطر السماوات والأرض } وقال في موضع آخر : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض } [ فاطر : 1و . . . ] وفي موضع آخر : { خلق السماوات والأرض } [ الأنعام : 1و . . . ] وقال في موضع آخر : { بديع السماوات والأرض } [ البقرة : 117 ] .

قال بعض الباطنية : المُبدع هو الذي يُنشئ الأشياء لا من شيء . والخالق هو الذي ينشئ الشيء من شيء ومن لا شيء . والفاطر هو الذي يُنشئ من شيء ، أو نحوه من الكلام .

وعندنا أن هذه الأسماء ، وإن اختلفت ألفاظها ، وافترق اشتقاقها ومأخذها ، فهي في المعاني واحدة . والإبداع{[18676]} هو الإنشاء بلا احتذاء سبق ، والخلق هو الإنشاء والتقدير . لكن غيره لا يجوز أن يسمّى خالقا لأنه لا يقدر على تقدير شيء إلا على شاهد عاينه ، ورآه . والفاطر كأنه مأخوذ من الشق ، يشق الشيء ، ويخرُج منه أشياء . كله خلق ، وفاعله خالق على الحقيقة ، وهو الله تعالى ، وبالله القوة والتوفيق .

وقوله تعالى : { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } [ يحتمل وجوها :

أحدها ]{[18677]} : أي جعل من نفس آدم وحواء عليهم السلام أزواجا نسبنا جميعا [ إليهما ، لأنهما الأصل ، وإنا جميعا ]{[18678]} إنما كنا من ذلك الأصل ، وهو كنسبته إيانا إلى التراب بقوله : { خلقكم من تراب } [ الروم : 20و00 ] وإنما خلق أصلنا من التراب ، لكنه نسبنا إليه لما منه كنا جميعا .

فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } أي من نفس آدم وحوّاء ، ونسبنا إليهما لما منهما كنا جميعا ، والله أعلم .

والثاني يقول : جعل بعضكم من بعض أزواجا أي حلائل ، أي خلق الإناث من الرجال والرجال من الإناث ، وهو ما ذكر في آية أخرى : { خلق لم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها } الآية [ الروم : 21 ] .

والثالث : أي جعل لكم من مثل خلقكم أزواجا أي أصنافا وأشكالا ، جعل الخلق{[18679]} كله ذا أشكال وأمثال وذا أزواج .

وكذلك يخرّج قوله : { ومن الأنعام أزواجا } على وجهين :

أحدهما : يقول ، والله أعلم : إنه جعل الأنعام أيضا ذات أزواج وأشكال .

والثاني : جعل منها الذكور والإناث أيضا كما جعل من البشر .

وقوله تعالى : { يذرَؤُكم فيه } اختلف في تأويل قوله : { يذرؤُكم } والمراد بقوله { فيه } : أن الهاء كناية عن ماذا ؟ قال بعضهم { يذرؤُكم } أي يُكثركم ، وقيل : يُنشئكم { فيه } وقيل : يرزقكم { فيه } ويعمركم ، وقيل : يخلُقكم .

وأما قوله : { فيه } [ فقد ]{[18680]} قال بعضهم : يجيء قوله : { فيه } أي فيها كناية عن الأنعام . وكذلك ذُكر في حرف ابن مسعود رضي الله عنه ويذرؤُكم فيها أي في الأنعام لما جعل للبشر فيها من أنواع المنافع .

وأما من قرأ { يذرؤكم فيه } بغير الألف فهو يجعله كناية عن العالم . كأنه يقول : { يذرؤكم فيه } أي يخلقكم في العالم ، ويُكثركم فيه ، ويعيّشكم ويعمّركم .

وقال بعضهم : { يذرؤكم } أي يُكثّركم في هذا التزويج الذي جعل بينكم ، أي يكثّركم بسبب هذا التزويج [ ولولا هذا التزويج ]{[18681]} لم يكثر الناس .

وجائز أن يكون قوله : { فيه } كناية عن التدبير ؛ يقول : { يذرؤكم فيه } يخلقُكم فيه نسلا بعد نسل كقوله تعالى : { ذرأكم في الأرض } [ المؤمنون : 79 ] وهو قول القتبيّ وأبي{[18682]} عوسجة .

وقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } الآية : يستدل بعض أهل التشبيه بأن له مثلا بقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } يقولون : لو لم يكن له مثل لم يذكر كاف التشبيه حين{[18683]} قال : { ليس كمثله شيء } لكن نفى مثليّة الأشياء عن مثله ، فيكون فيه إثبات مثل له ، لا يشبه سائر الأشياء سواه ، أو كلام نحو هذا .

وعندنا قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } أي ليس مثله شيء ، والكاف قد تُزاد في الكلام .

وقال بعضهم : أي ليس كَهُوَ شيء ، والعرب قد تقيم المثل مُقام النفس . وأصله أن الخَلْق ذو أعداد ، وكل ذي عدد له أشكال وأمثال من حيث العدد .

والأصل في ذلك أن الخَلْق ، وإن كانوا ذوي{[18684]} أمثال وأشكال وأشباه فليس يشبه بعضهم بعضا من جميع الوجوه وكل الجهات . ولكن إنما يشبه بعضهم بعضا [ بوجه من الوجوه ]{[18685]} أو بصفة أو بجهة أو بنفس ، ثم صار بعضهم أمثالا لبعض وأشباها بتلك الجهة وبذلك الوصف .

فدلّ أن الله تعالى ليس يُشبه الخَلْق ، ولا له مثال منهم بوجه من الوجوه ، ولا له شبيه منهم : لا ما يرجع إلى النفس [ ولا ما يرجع إلى الصفة ]{[18686]} وهو يتعالى عن جميع معاني الخلق وصفاتهم .

ودلّ قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } أنه شيء لأنه نفى عن نفسه المثليّة ، ولم ينف الشيئية .

لكن يقال : /479-ب/ شيء لا كالأشياء ، ينفي عنه شِبه الأشياء . والشيء إثبات ، وفي الإثبات توحيد . ولو لم يكن شيئا لكان يقول : ليس هو شيئا{[18687]} . دل أنه ما ذكر .

وقوله سبحانه : { وهو السميع البصير } ذُكر في غير موضع ، والله الموفّق .


[18676]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[18677]:ساقطة من الأصل وم.
[18678]:من م، ساقطة من الأصل.
[18679]:في الأصل وم: الخلائق.
[18680]:ساقطة من الأصل وم.
[18681]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[18682]:في الأصل وم: وأبو.
[18683]:في الأصل وم: حيث.
[18684]:في الأصل وم: ذا.
[18685]:في الأصل وم: من جميع الوجوه أو بوجه.
[18686]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[18687]:في الأصل وم: شيء.