فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الفاطر الخالق المبدع ، وقد تقدم تحقيقه وهذا خبر خامس أو مبتدأ وخبره ما بعده ، أو نعت لربي لأن الإضافة محضة ويكون عليه توكلت وإليه أنيب معترضا بين الصفة والموصوف ، وقرأ زيد بن علي فاطر بالجر على أنه نعت للاسم الشريف في قوله إلى الله وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في عليه أو إليه وأجاز الكسائي النصب على النداء وأجاز غيره على المدح .

{ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } خبر سادس أي خلق لكم من جنسكم نساء ، أو المراد حواء لكونها خلقت من ضلع آدم ، وقال مجاهد نسلا بعد نسل { وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي خلق لها من جنسها إناثا أو خلق لكم من الأنعام أصنافا من الذكور والإناث ، وهي الثمانية التي ذكرها في الأنعام .

{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي يبثكم من الذرء وهو البث أو يخلقكم وينشئكم والضمير في يذرؤكم للمخاطبين والأنعام إلا أنه غلب عليه العقلاء ، قال الزمخشري وهي من الأحكام ذات العلتين ، قال الشيخ وهو اصطلاح غريب ، والمعنى أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا ، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل ، أو للمخلوق ، وقيل راجع إلى ما ذكر من التدبير ، وقال الفراء والزجاج وابن كيسان معنى يذرؤكم فيه يكثركم به أي يكثركم يجعلكم أزواجا لأن ذلك سبب النسل ، وقال ابن قتيبة : يذرؤكم فيه أي في الزوج وقيل في البطن وقيل في الرحم .

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } خبر سابع والمراد بذكر المثل هنا المبالغة في النفي بطريق الكناية فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى ، كقولهم : مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود ، وقيل : إن الكاف زائدة للتوكيد لأنه تعالى لا مثل له ، وهو المشهور عند المعربين ، وقيل : إن مثل زائدة قاله ثعلب وغيره ، كما في قوله { فإِنْ آمنُوا بِمِثْلِ ما آمنْتُمْ بِهِ } أي بما آمنتم به ، وهذا ليس بجيد ، بل الأول أولى .

فإن الكناية باب مسلوك للعرب ومهيج مألوف لهم قال ابن قتيبة العرب تقيم المثل مقام النفس ، فتقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي أنا لا يقال لي ، وقيل : المراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل والمثل الصفة كقوله مثل الجنة ، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره وهو محمل سهل .

قال الراغب : المثل أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط ، والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط ، والمساوي يقال فيما يشاركه في الكمية فقط والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط ، ولهذا لما أراد الله نفي الشبه من كل وجه خصه بالذكر وقال تعالى

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وقال أبو البقاء مرجحا لزيادة الكاف إنها لو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال ، إذ يكون المعنى أن له مثلا وليس لمثله مثل ، وفي ذلك تناقض ، لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل ، وهو هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال ، وهذا تقرير حسن ، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرناه من كون الكلام خارجا مخرج الكناية .

ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها ، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة ، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمثل ، قد اشتمل على برد اليقين ، وشفاء الصدور ، وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة ، والبرهان القوي ، فإنك تحطم بها كثيرا من البدع ، وتهشم بها رؤوسا من الضلالة ، وترغم بها آناف طوائف من القاصرين المتكلفين ، والمتكلمين المتأولين ، ولاسيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام وعلم أصول الدين .

ودع عنك نهيا صيح في حجراته *** ولكن حديث ما حديث الرواحل

وهو السميع الخ خبر ثامن وقوله : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } خبر تاسع .