الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرُ السماوات } قرىء بالرفع والجر ، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم . أو خبر مبتدأ محذوف ، والجرّ على : فحكمه إلى الله فاطر السموات ، و { ذلكم } إلى { أُنِيبُ } اعتراض بين الصفة والموصوف { جَعَلَ لَكُم } خلق لكم { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم من الناس { أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا } أي : وخلق من الأنعام أزواجاً . ومعناه : وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً { يَذْرَؤُكُمْ } يكثركم ، يقال : ذرأ الله الخلق : بثهم وكثرهم . والذر ، والذرو ، والذرء : أخوات { فِيهِ } في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل . والضمير في { يَذْرَؤُكُمْ } يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل ، وهي من الأحكام ذات العلتين ،

فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ وهلا قيل : يذرؤكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ؛ ألا تراك تقول : للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة } [ البقرة : 179 ] قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه . ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر . ومنه قولهم : قد أيفعت لداته وبلغت أترابه ، يريدون : إيفاعه وبلوغه . وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته والقصد إلى طهارته وطيبه ، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله : ليس كالله شيء ، وبين قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها ، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد : وهو نفي المماثلة عن ذاته ، ونحوه قوله عز وجل : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] فإن معناه : بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها : لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئاً آخر ، حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له ، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له ، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد ، كما كرّرها من قال :

وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤْثَفَيْن ***

ومن قال :

فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ***