قوله عز وجل :{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } نزلت في أبي معمر ، جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم ، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال انهزموا ، قال : فما لك إحدى نعليك في يدك الأخرى في رجلك ؟ فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده . وقال الزهري ، ومقاتل : هذا مثل ضربه الله عز وجل للمظاهر من امرأته وللمتنبي ولد غيره ، يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان ، ولا يكون له ولد واحد ابن رجلين . { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } قرأ أهل الشام والكوفة : اللائي ها هنا وفي سورة الطلاق بياء بعد الهمزة ، وقرأ قالون عن نافع ويعقوب بغير ياء بعد الهمزة ، وقرأ الآخرون بتليين الهمزة ، وكلها لغات معروفة ، تظاهرون قرأ عاصم بالألف وضم التاء وكسر الهاء مخففاً ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والهاء مخففاً ، وقرأ ابن عامر بفتحها وتشديد الظاء ، وقرأ الآخرون بفتحها وتشديد الظاء والهاء من غير ألف بينهما . وصورة الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . يقول الله تعالى : ما جعل نساءكم اللائي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم ، ولكنه منكر وزور ، وفيه كفارة نذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة . { وما جعل أدعياءكم } يعني : من تبنيتموه { أبناءكم } فيه نسخ التبني ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود له ، يدعوه الناس إليه ، ويرث ميراثه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة ابن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة ، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ونسخ التبني ، { ذلكم قولكم بأفواهكم } لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم وادعاء نسب لا حقيقة له ، { والله يقول الحق } يعني : قوله الحق ، { وهو يهدي السبيل } أي : يرشدهم إلى سبيل الحق .
{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } قال ابن عباس : كان في قريش رجل يقال له ذو القلبين لشدة فهمه ، فنزلت الآية نفيا لذلك ، ويقال : إنه ابن أخطا ، وقيل : جميل بن معمر ، وقيل : إنما جاء هذا اللفظ توطئة لما بعده من النفي أي : كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا أدعياءكم أبناءكم . { اللائي تظاهرون منهن } أي : تقولون للزوجة : أنت عليّ كظهر أمي ، وكانت العرب تطلق هذا اللفظ بمعنى التحريم ويأتي حكمه في المجادلة وإنما تعدى هذا الفعل بمن لأنه يتضمن معنى يتباعدون منهن .
{ وما جعل أدعياءكم أبناءكم } الأدعياء جمع دعي ، وهو الذي يدعى ولد فلان وليس بولده ، وسببها أمر زيد بن حارثة : وذلك أنه كان فتى من كلب فسباه بعض العرب وباعه من خديجة فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فتبناه ؛ فكان يقال له : زيد بن محمد حتى أنزلت هذه الآية { ذلكم قولكم } الإشارة إلى نسبة الدعي إلى غير أبيه ، أو إلى كل ما تقدم من المنفيات .
ولما كان النازع إلى جهتين{[55014]} والمعالج لأمرين متباينين كأنه يتصرف بقلبين ، أكد أمر الإخلاص في جعل الهم هماً واحداً فيما يكون من أمور الدين والدنيا ، وفي المظاهرة والتبني وكل ما شابههما بضرب المثل بالقلبين - كما قال الزهري ، فقال معللاً لما قبله بما فيه من الإشارة إلى أن الآدمي مع قطع النظر عن رتبة النبوة موضع لخفاء الأمور عليه : { ما جعل الله } أي الذي له الحكمة البالغة ، والعظمة الباهرة ، وليس الجعل إلا له ولا أمر لغيره { لرجل } أي لأحد من بني آدم الذين هم أشرف الخلائق من نبي ولا غيره ، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب الأولى ؛ وأشار إلى التأكيد بقوله : { من قلبين } وأكد الحقيقة وقررها ، وجلاها وصورها لما قد يظن الإنسان من أنه يقدر على صرف النفس إلى الأمور المتخالفة كما يفعل المنافق ، بقوله : { في جوفه } أي حتى يتمكن من أن ينزع بكل قلب إلى جهة غير الجهة التي نزع إليها القلب الآخر لأن ذلك مودِّ إلى خراب البدن لأن القلب مدبره بإذن الله تعالى ، واستقلال كل بالتدبير يؤدي إلى الفساد كما مضى في دليل التمانع سواء ؛ قال الرازي في اللوامع : القلب كالمرآة مهما حوذي به جانب القدس أعرض عن جانب الحس ، ومهما حوذى به جانب الحس أعرض عن جانب القدس ، فلا يجتمع الإقبال على الله وعلى ما سواه - انتهى . وحاصل ذلك أنه تمهيد لأن التوزع{[55015]} والشرك لا خير فيه ، وأن مدبر الملك{[55016]} واحد كما أن مدبر البدن قلب واحد ، فلا التفاف إلى غيره ، وأن الدين ليس بالتشهي وجعل الجاعلين ، وإنما هو بجعله{[55017]} سبحانه ، فإنه العالم بالأمور على ما هي عليه .
ولما كان كل من المظاهرة والتبني نازعاً إلى جهتين متنافيتين ، وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار طلاقاً مؤبداً لا رجعة فيه - كما نقله ابن الملقن في عمدة المنهاج عن صاحب الحاوي ، وكان المخاطبون قد أعلاهم الوعظ السابق إلى التأهل للخطاب ، لفت سبحانه القول إليه على قراءة الغيب في " يعملون " لأبي عمرو{[55018]} فقال : { وما جعل أزواجكم } أي بما أباح لكم من الاستمتاع بهن{[55019]} من جهة الزوجية ؛ ثم أشار إلى الجهة الأخرى بقوله : { اللائي تظاهرون منهن } أي كما{[55020]} يقول الإنسان للواحدة منهن : أنت عليّ كظهر أمي { أمهاتكم } بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد{[55021]} وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها ، لأنه لا يكون لرجل أمان ، ولو جعل ذلك لضاق الأمر ، واتسع الخرق ، وامتنع الرتق{[55022]} { وما جعل أدعياءكم } بما جعل لهم من النسبة والانتساب إلى غيركم { أبناءكم } بما جعلتم لهم من الانتساب إليكم ليحل لهم{[55023]} إرثكم{[55024]} ، وتحرم عليكم حلائلهم{[55025]} وغير ذلك من أحكام الأبناء ، ولا يكون لابن أبوان ، ولو جعل ذلك لضاعت الأنساب ، وعم الارتياب ، وانقلب كثير من الحقائق أيّ انقلاب ، فانفتح بذلك من الفساد أبواب أيّ أبواب ، فليس زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي الذي تبنيته{[55026]} ابناً لك أيها النبي بتبنيك{[55027]} له جزاء له{[55028]} باختياره لك على أبيه وأهله ، وهذا توطئة لما يأتي من قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بنت جحش مطلقة زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم{[55029]} لما تزوجها قال المنافقون كما حكاه البغوي{[55030]} وغيره : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، وبين أن التبني إنما هو مجاز ، وأن المحرم إنما هو زوجة الابن الحقيقي و{[55031]} ما ألحق به من الرضاع ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان{[55032]} تبنى {[55033]}زيداً لقصة{[55034]} مذكروة في السيرة{[55035]} ، روى البخاري{[55036]} عن ابن عمر رضي الله عنهما أن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبائهم } .
ولما أبطل هذا{[55037]} سبحانه ، استأنف الإخبار عما مضى من عملهم فيه فقال{[55038]} : { ذلكم } أي القول البعيد عن الحقيقة ، وأكد هذا بقوله : { قولكم بأفواهكم } أي لا حقيقة له وراء القول وتحريك الفم من غير مطابقة قلوبكم{[55039]} ، فإن كل من يقول ذلك لا يعتقده ، لأن من كان له فم كان محتاجاً ، ومن كان محتاجاً كان معرضاً للنقائص كان معرضاً للأوهام ، ومن غلبت ، عليه الأوهام كان في كلامه الباطل{[55040]} { والله } أي المحيط علمه وقدرته وله جميع صفات الكمال{[55041]} { يقول الحق } أي{[55042]} الكامل في حقيته{[55043]} ، الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه ، فلا قدرة لأحد على نقضه فإن أخبر عن شيء فهو كما قال ، ليس بين الخبر والواقع من ذلك المخبر عنه شيء من المخالفة ، وإن أتى بقياس فرع على أصل لم يستطع أحد إبداء فرق{[55044]} ، فإن أقواله سبحانه سابقة على الواقع لأنها مصدرة فيها بكون ، فإذا قال قولاً وجد مضمونه مطابقاً لذلك القول ، فإذا طبقت بينهما كانا سواء ، فكان ذلك المضمون ثابتاً كما كان ذلك الواقع ثابتاً ، فكان حقاً ، هكذا أقواله على الدوام ، لأنه منزه سبحانه عن النقائص فلا جارحة ثم ليكون بينها وبين معد القول مخالفة من فم أو غيره وعن كل ما يقتضي حاجة ، فالآية من الاحتباك : ذكر الفم أولاً دليلاً على نفيه ثانياً والحق ثانياً دليلاً على ضده الباطل أولاً ، وسرّ ذلك أنه ذكر ما يدل على النقص في حقنا ، وعلى الكمال في حقه ، ودل على التنزيه بالإشارة ليبين فهم الفهماء وعلم العلماء{[55045]} { وهو } أي وحده من حيث قوله الحق { يهدي السبيل * } أي الكامل الذي من شأنه أن يوصل إلى المطلوب إن ضل أحد في فعل أو قول ، فلا تعولوا على سواه ولا تلتفتوا أصلاً إلى غيره .