الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

قوله : { اللاَّئِي } : قرأ الكوفيون وابن عامر بياءٍ ساكنةٍ بعد همزةٍ مكسورةٍ . وهذا هو الأصلُ في هذه اللفظةِ لأنه جمعُ " التي " معنًى . وأبو عمروٍ والبزيُّ " اللاَّيْ " بياءٍ ساكنةٍ وصلاً بعد ألفٍ مَحْضَةٍ في أحدِ وجهَيْهما . ولهما وجهٌ آخرُ سيأتي .

ووجهُ هذه القراءةِ أنهما حَذَفا الياءَ بعد الهمزةِ تخفيفاً ، ثم أبدلا الهمزةَ ياءً ، وسَكَّناها لصيرورتِها ياءً مكسوراً ما قبلها كياءِ القاضي والغازِي ، إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس ، وإنما القياسُ جَعْلُ الهمزةِ بينَ بينَ . قال أبو علي : " لا يُقْدَمُ على مثلِ هذا البدلِ إلاَّ أَنْ يُسْمَعَ " . قلت : قال أبو عمروٍ ابن العلاء : " إنها لغةُ قريشٍ التي أُمِر الناسُ أَنْ يَقْرَؤوا بها " . وقال بعضهم : لم يُبْدِلوا وإنما كتبوا فعبَّر عنهم القُرَّاء بالإِبدال . وليس بشيء .

وقال أبو علي وغيره : " إظهارُ أبي عمرو " اللايْ يَئِسْنَ " يدلُّ على أنه يُسَهِّلُ ولم يُبْدِلْ " وهذا غيرُ لازم ؛ لأنَّ البدلَ عارضٌ . فلذلك لم يُدْغِمْ . وقرآ - هما أيضاً - وورشٌ بهمزةٍ مُسَهَّلة بينَ بينَ . وهذا الذي زعم بعضُهم أنه لم يَصِحَّ عنهم غيرُه وهو تخفيفٌ قياسيٌّ ، وإذا وقفوا سكَّنوا الهمزةَ ، ومتى سَكَّنوها استحالَ تسهيلُها بينَ بينَ لزوالِ حركتِها/ فتُقْلَبُ ياءً لوقوعِها ساكنةً بعد كسرةٍ ، وليس مِنْ مذهبِهم تخفيفُها فتُقَرَّ همزةً .

وقرأ قنبل وورشٌ بهمزةٍ مكسورةٍ دونَ ياءٍ ، حَذَفا الياءَ واجتَزَآ عنها بالكسرةِ . وهذا الخلافُ بعينِه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق .

قوله : " تُظاهِرون " قرأ عاصمٌ " تُظاهِرون " بضم التاء وكسر الهاءِ بعد ألفٍ ، مضارعَ ظاهَرَ . وابنُ عامرٍ " تَظَّاهرون " بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارعَ تَظاهَر . والأصل " تتظاهرون " بتاءَيْن فأدغم . والأخوان كذلك ، إلاَّ أنهما خَفَّفا الظاءَ . والأصل أيضاً بتاءَيْن . إلاَّ أنهما حَذَفا إحداهما ، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو : إمَّا الإِدغامُ ، وإمَّا الحَذْفُ . وقد تقدَّم تحقيقُه في نحو : " يَذَّكَّرْ " و " تَذَكَّرُون " مثقلاً ومخففاً . وتقدَّم نحوُه في البقرة أيضاً .

والباقون " تَظَّهَّرون " بفتح التاءِ والهاءِ وتشديدِ الظاء والهاء دونَ ألفٍ . والأصل : تَتَظَهَّرُوْن بتاءَيْن فأدغَم نحو : " تَذَكَّرون " . وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتِهِم هنا في قوله : { يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ المجادلة : 3 ] إلاَّ الأخَوَيْن ، فإنَّهما خالَفا أصلهما هنا فقرآ في المجادلة بتشديدِ الظاءِ كقراءةِ ابنِ عامر . والظِّهارُ مشتقٌّ من الظَّهْرِ . وأصلُه أن يقولَ الرجلُ لامرأتِه : " أنتِ علي كظهرِ أمي " ، وإنما لم يَقْرأ الأخَوان بالتخفيفِ في المجادلة لعدم المسوِّغِ له وهو الحذفُ ؛ لأنَّ الحذفَ إنما كان لاجتماع مِثْلَيْن وهما التاءان ، وفي المجادِلة ياءٌ من تحتُ وتاءٌ من فوقُ ، فلم يجتمعْ مِثْلان فلا حَذْفَ ، فاضْطُرَّ إلى الإِدغام .

هذا ما قُرِئ به متواتراً .

وقرأ ابنُ وثَّاب " تُظْهِرُون " بضم التاء وسكون الظاء وكسرِ الهاء مضارعَ أَظْهَرَ . وعنه أيضاً " تَظَهَّرُون " بفتح التاء والظاءِ مخففةً ، وتشديدِ الهاء ، والأصل : تَتَظَهَّرون ، مضارعَ تَظَهَّر مشدداً فحذف إحدى التاءين . وقرأ الحسن " تُظَهِّرون " بضمِّ التاء وفتح الظاءِ مخففةً وتشديد الهاء مكسورةً مضارعَ ظَهَّر مشدداً . وعن أبي عمروٍ " تَظْهَرُون " بفتحِ التاء والهاء وسكونِ الظاءِ مضارعَ " ظهر " مخففاً . وقرأ أُبَي - وهي في مصحفِه كذلك - تَتَظَهَّرون بتاءَيْن . فهذه تسعُ قراءات : أربعٌ متواترةٌ ، وخمسٌ شاذةٌ . وأَخْذُ هذه الأفعالِ مِنْ لفظِ الظَّهْر كأَخْذِ لَبَّى من التَّلْبية ، وتأَفَّفَ مِنْ أُفٍّ . وإنما عُدِّي ب " مِنْ " لأنه ضُمِّن معنى التباعد . كأنه قيل : يتباعَدُون مِنْ نسائِهم بسببِ الظِّهار كما تقدَّم في تعديةِ الإِيلاء ب " مِنْ " في البقرة .

قوله : " ذلكمْ قولُكم " مبتدأٌ وخبرٌ أي : دعاؤكُم الأدعياءَ أبناءً مجردُ قولِ لسانٍ مِنْ غيرِ حقيقةٍ . والأَدْعياءُ : جمعُ دَعِيّ بمعنى مَدْعُوّ فَعيل بمعنى مَفْعول . وأصلُه دَعِيْوٌ فأُدْغم ولكن جَمْعَه على أَدْعِياء غيرُ مَقيس ؛ لأنَّ أَفْعِلاء إنما يكونُ جمعاً لفَعيل المعتلِّ اللامِ إذا كان بمعنى فاعِل نحو : تقِيّ وأَتْقِياء ، وغَنيّ وأغنياء ، وهذا وإنْ كان فَعيلاً معتلَّ اللام إلاَّ أنه بمعنى مَفْعول ، فكان قياسُ جمعِه على فَعْلَى كقتيل وقَتْلَى وجريح وجَرْحى . ونظيرُ هذا في الشذوذِ قولُهم : أَسير وأُسَراء ، والقياس أَسْرَى ، وقد سُمِع فيه الأصل .