جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ } .

اختلف أهل التأويل في المراد من قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فقال بعضهم : عنى بذلك تكذيب قوم من أهل النفاق ، وصفوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلبين ، فنفى الله ذلك عن نبيه ، وكذّبهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا حفص بن نفيل ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، عن قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه ، قال : قلنا لابن عباس : أرأيت قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْن فِي جَوْفِه ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فصلى ، فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : إن له قلبين ، قلبا معكم ، وقلبا معهم ، فأنزل الله : ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَين في جَوْفِهِ .

وقال آخرون : بل عنى بذلك : رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين من دِهْيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال : كان رجل من قريش يسمى من دهيه ذا القلبين ، فأنزل الله هذا في شأنه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَين فِي جَوْفِهِ قال : إن رجلاً من بني فهر ، قال : إن في جوفي قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد «وكذب » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال قتادة : كان رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذا القلبين ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .

قال قتادة : وكان الحسن يقول : كان رجل يقول لي : نفس تأمرني ، ونفس تنهاني ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، قال : كان رجل يسمى ذا القلبين ، فنزلت ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه .

وقال آخرون : بل عنى بذلك زيد بن حارثة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنّاه ، فضرب الله بذلك مثلاً . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضرب له مثلاً يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك تكذيب من الله تعالى قول من قال لرجل في جوفه قلبان يعقل بهما ، على النحو الذي رُوي عن ابن عباس وجائز أن يكون ذلك تكذيبا من الله لمن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأن يكون تكذيبا لمن سمى القرشيّ الذي ذُكر أنه سمي ذا القلبين من دهيه ، وأيّ الأمرين كان فهو نفي من الله عن خلقه من الرجال أن يكونوا بتلك الصفة .

وقوله : وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أمّهاتِكُمْ يقول تعالى ذكره : ولم يجعل الله أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهنّ : أنتن علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم ، بل جعل ذلك من قيلكم كذبا ، وألزمكم عقوبة لكم كفّارة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهاتِكُمْ : أي ما جعلها أمك فإذا ظاهر الرجل من امرأته ، فإن الله لم يجعلها أمه ، ولكن جعل فيها الكفّارة .

وقوله : وَما جَعَلَ أدعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ يقول : ولم يجعل الله من ادّعيت أنه ابنك ، وهو ابن غيرك ابنك بدعواك . وذُكر أن ذلك نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تبنيه زيد بن حارثة . ذكر الرواية بذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال : نزلت هذه الاَية في زيد بن حارثة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال : كان زيد بن حارثة حين منّ الله ورسوله عليه ، يقال له : زيد بن محمد ، كان تبنّاه ، فقال الله : ما كانَ مُحَمّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قال : وهو يذكر الأزواج والأخت ، فأخبره أن الأزواج لم تكن بالأمهات أمهاتكم ، ولا أدعياءكم أبناءكم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ وما جعل دعّيك ابنك ، يقول : إذا ادّعى رجل رجلاً وليس بابنه ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ . . . الاَية . وذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : «من ادّعى إلى غَير أبِيهِ مُتَعَمّدا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنّةَ » .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن عامر ، قال : ليس في الأدعياء زيد .

وقوله ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ يقول تعالى ذكره هذا القول وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم لا حقيقة له ، لا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادّعيت بنوّته ، ولا تصير الزوجة أمّا بقول الرجل لها : أنت عليّ كظهر أمي وَاللّهُ يقُولُ الحَقّ يقول : والله هو الصادق الذي يقول الحقّ ، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه ، وبه تكون المرأة للمولود ، أمّا إذا حكم بذلك وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ يقول تعالى ذكره : والله يبين لعباده سبيل الحقّ ، ويرشدهم لطريق الرشاد .