الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

فيه خمس مسائل :

الأولى- قال مجاهد : نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه ، وكان يقول : إن لي في جوفي قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد . قال : وكان من فهر . الواحدي والقشيري وغيرهما : نزلت في جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا حافظا لما يسمع . فقالت قريش : ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان . وكان يقول : لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر ، رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله ، فقال أبو سفيان : ما حال الناس ؟ قال انهزموا . قال : فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده . وقال السهيلي : كان جميل بن معمر الجمحي ، وهو ابن معمر بن حبيب بن وهب ابن حذافة بن جمح ، واسم جمح : تيم ، وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية ، وفيه يقول الشاعر :

وكيف ثَوَائِي بالمدينة بعد ما *** قضَى وطراً منها جميلُ بن معمر قلت : كذا قالوا جميل بن معمر . وقال الزمخشري : جميل بن أسد الفهري . وقال ابن عباس : سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا له قلبان ؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول ، فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل . وقيل : نزلت في عبد الله بن خطل . وقال الزهري وابن حبان : نزل ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين . قال النحاس : وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة ، وهو من منقطعات الزهري ، رواه معمر عنه . وقيل : هو مثل ضرب للمظاهر ، أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان . وقيل : كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا ، وقلب يأمرني بكذا ، فالمنافق ذو قلبين . فالمقصود رد النفاق . وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب ، كما لا يجتمع قلبان في جوف . فالمعنى : لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب . ويظهر من الآية بجملتها نقي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت ، وإعلام بحقيقة الأمر ، والله أعلم .

الثانية- القلب بضعة{[12695]} صغيرة على هيئة الصنوبرة ، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم ، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار ، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهي ، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني ، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا . وهو بين لمتين{[12696]} : لمة من الملك ، ولمة من الشيطان ، كما قال صلى الله عليه وسلم . خرجه الترمذي ، وقد مضى في " البقرة " {[12697]} . وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان ، وموضع الإصرار والإنابة ، ومجرى الانزعاج والطمأنينة{[12698]} . والمعنى في الآية : أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والإنابة والإصرار ، وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز ، والله أعلم .

الثالثة- أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم ذكرهم ، أي إنما هو قلب واحد ، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر ؛ لأن درجة النفاق كأنها متوسطة ، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد . وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية ، متى نسي شيئا أو وهم . يقول على جهة الاعتذار : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .

الرابعة- قوله تعالى : " وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم " يعني قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وذلك مذكور في سورة " المجادلة " {[12699]} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

الخامسة- قوله تعالى : " وما جعل أدعياءكم أبناءكم " أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة . وروى الأئمة أن ابن عمر قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت : " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " [ الأحزاب : 5 ] وكان زيد فيما روي عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشأم ، سبته خيل من تهامة ، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد ، فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه ، فأقام عنده مدة ، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل البعث : ( خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء ) . فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه ، فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ( يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه ) وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم على ذلك ، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا . وكان أبوه لما سبي يدور الشأم ويقول :

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل *** أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجلْ

فوالله لا أدري وإني لسائل *** أغالك بعدي السَّهْلُ أم غالك الجبل

فيا ليت شعري هل لك الدهرَ أوبةٌ *** فحسبي من الدنيا رجُوعك لي بَجَلْ{[12700]}

تُذَكِّرُنيهِ الشمس عند طلوعها *** وتعرِض ذكراه إذا غَرْبُهَا أفَلْ

وإن هبت الأرياح هَيَّجْنَ ذكره *** فيا طول ما حُزْنِي عليه وما وجل

سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا *** ولا أسأم التَّطْوَافَ أو تسأم الإبل

حياتيَ أو تأتي عليَّ منيتي *** فكل امرئ فان وإن غرَّهُ الأملْ

فأخبر أنه بمكة ، فجاء إليه فهلك عنده . وروي أنه جاء فخيره النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف . وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاء عند قوله : " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " {[12701]} [ الأحزاب : 37 ] إن شاء الله تعالى . وقتل زيد بمؤتة من أرض الشأم سنة ثمان من الهجرة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره في تلك الغزاة ، وقال : ( إن قتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة ) . فقتل الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي زيد وجعفر بكى وقال : ( أخواي ومؤنساي ومحدثاي ) .


[12695]:البضعة (بالفتح وقد تكسر) القطعة من اللحم.
[12696]:اللمة (بالفتح) الهمة والخطرة تقع في القلب.
[12697]:راجع ج 1 ص 187 فما بعد.
[12698]:في بعض النسخ: " والطمأنينة والاعتدال".
[12699]:راجع ج 17 ص 279 فما بعد.
[12700]:بجل: كنعم زنة ومعنى. وأبجله الشيء: كفاه.
[12701]:راجع ص 188 من هذا الجزء.