فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

{ مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } وقيل : هي مثل ضربه الله للمظاهر ، أي : كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان وكذلك لا يكون الدعي ابن الرجل ، وقيل كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا ، وقلب بكذا فنزلت الآية برد النفاق وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام ، كما لا يجتمع قلبان ، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلا للعلم و { من } زائدة وقال : في جوفه لأنه معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني ومنبع القوي بأسرها ، فيمتنع تعدده لأنه يؤدي إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل لها .

عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم ، فنزل { مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } .

وعنه بلفظ : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ، فسها فيها ، فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فقالوا : إن له قلبين ، فنزلت . وعنه أيضا قال : كان رجل من قريش يسمى من دهائه : ذا القلبين فأنزل الله هذا في شأنه .

{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } قرئ اللائي بياء ساكنة بعد همزة وبياء ساكنة بعد ألف محضة قال أبو عمرو بن العلاء : إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرأوا بها وتظاهرون مضارع ظاهر ، وقرئ مضارع تظاهر والأصل تتظاهرون وقرئ تظهرون والأصل تنظهرون ، وأخذ ذلك من لفظ الظهر كأخذ لبى من التلبية ، وإنما عدي بمن لأنه ضمن معنى التباعد ، كأنه قيل : متباعدين من نسائكم بسبب الظهار ، كما تقدم في تعدية الإيلاء بمن في البقرة .

والظهار أصله أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي ، والمعنى ما جعل الله نساءكم اللاتي تقولون لهن هذا القول كأمهاتكم في التحريم ، ولكنه منكر من القول وزور ، وإنما تجب به الكفارة بشرطه ، وهو العود كما ذكر في سورة المجادلة بقوله : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي نفسه بأن يخالفوه بإمساك المظاهر منها زمنا يمكنه أن يفارقها فيه أو لا يفارقها ، لأنه مقصود المظاهر وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه قاله الكرخي .

{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ } أي : وكذلك ما جعل الأدعياء الذين تدعون أنهم أبناؤكم { أَبْنَاءكُمْ } والأعياء جمع دعي ، وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه فهو فعيل بمعنى مفعول . ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس لأن أفعلاء إنما يكون جمعا لفعيل ، المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل ؛ نحو تقي وأتقياء ، وغني وأغنياء ، وهذا وإن كان فعيلا معتل اللام لأن أصله دعيو فأدغم إلا أنه بمعنى مفعول فكان القياس جمعه على فعلى كقتيل وقتلى وجريح وجرحى ، ومريض ومرضى ، ونظير هذا في الشذوذ قولهم : أسير وأسارى ، والقياس أسرى ، وقد سمع فيه الأصل قاله السمين .

{ ذَلِكُمْ } أي ما تقدم من ذكر الظهار والادعاء { قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه ، ولا تأثير له في الخارج ، فلا تصير المرأة به أمه ، ولا ابن الغير به إبنا ، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة .

وقيل : الإشارة راجعة إلى الادعاء أي : ادعاؤكم أن أبناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له بل هو مجرد قول بالفم ؛ إذ الابن لا يكون إلا بالولادة وفيه نسخ التبني ، وذلك أن الرجل كان في الجاهلية يتبنى الرجل ، فيجعله كالابن المولود يدعوه إليه الناس ، ويرث ميراثه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة ، فلما تزوج زينب – وكانت تحت زيد قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه ، وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، ونسخ بها التبني .

قال النحاس : وهذا من نسخ السنة بالقرآن . قال القرطبي : أجمع أهل التفسير على أن هذا القول أنزل في زيد بن حارثة .

{ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ } الذي يحق إتباعه لكونه حقا في نفسه ، لا باطلا ، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي يدل على الطريق الموصلة إلى الحق ، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق ، وترك قول الباطل والزور ، ثم صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال : ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( 5 ) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( 6 ) }