بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

قوله عز وجل : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال مقاتل : نزلت في جميل بن معمر ، ويكنى أبا معمر ، وكان حافظاً بما يسمع ، وأهدى الناس للطريق ، يعني : طريق البلدان ، وكان مبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول : إن لي قلبين ، أحدهما أعقل من قلب محمد فنزل : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } وكان الناس يظنون أنه صادق في ذلك ، حتى كان يوم بدر فانهزم ، وهو آخذ بإحدى نعليه ، والأخرى في رجله حتى أدركه أبو سفيان بن حرب وكان لا يعلم بذلك ، حتى أخبر أن إحدى نعليه في أصبعه ، والأخرى في رجله ، فعرفوا أنه ليس له قلبان . ويقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهى في صلاته ، فقال المنافقون : لو أن له قلبين أحدهما في صلاته ، والآخر مع أصحابه ، فنزل { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } .

وروى معمر عن قتادة قال : كان رجل لا يسمع شيئاً إلا وعاه ، فقال الناس : ما يعي هذا إلا أن له قلبين ، وكان يسمى ذا القلبين فنزلت هذه الآية . وروى معمر عن الزهري قال : بلغنا أن ذلك في شأن زيد بن حارثة ، ضرب الله مثلاً يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك ، كما لا يكون لرجل آخر من قلبان .

وذكر عن الشافعي رحمه الله أنه احتج على محمد بن الحسن قال : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ } يعني : ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام ، يعني : لا يجوز أن يثبت نسب صبي واحد من اثنين . ولكن هذا التفسير لم يذعن به أحد من المتقدمين ، فلو أراد به على وجه القياس لا يصح . لأنه ليس بينهما جامع يجمع بينهما . وذكر عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما : " أن جارية كانت بين رجلين ، جاءت بولد فادعياه ، فقالا : " إنه ابنهما يرثهما ويرثانه " .

ثم قال عز وجل : { وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم } قرأ عاصم { تُظاهرون } بضم التاء وكسر الهاء والألف . وقرأ ابن عامر : { تظّاهرون } بنصب التاء والهاء وتشديد الظاء مع الألف . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : { تظهرُونَ } بنصب التاء والهاء بغير ألف والتشديد . وقرأ حمزة والكسائي { تظاهرون } بنصب التاء والتخفيف مع الألف ، وهذه كلها لغات . يقال : ظاهر من امرأته ، وتظاهر ، وتظهر بمعنى واحد ، وهو أن يقول لها : أنت علي كظهر أمي . فمن قرأ : { تظّهرُونَ } بالتشديد ، فالأصل تظهرون ، فأدغم إحدى التاءين في الظاء وشددت . من قرأ { تظاهرون } فالأصل يتظاهرون فأدغمت إحدى التاءين . ومن قرأ بالتخفيف حذف إحدى التاءين ، ولم يشدد للتخفيف كقوله : { تُسْأَلُونَ } والأصل تتساءلون ، والآية نزلت في شأن أوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته ، وذكر حكم الظهار في سورة المجادلة .

ثم قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } نزلت في شأن زيد بن حارثة حين تبنّاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : فكما لا يجوز أن يكون لرجل واحد قلبان ، فكذلك لا يجوز أن تكون امرأته أمه ، ولا ابن غيره يكون ابنه .

ثم قال : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم } يعني : قولكم الذي قلتم زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم أنتم قلتموه بألسنتكم { والله يَقُولُ الحق } يعني : يبيّن الحق ، ويأمركم به كي لا تنسبوا إليه غير النسبة { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } يعني : يدلّ على طريق الحق . ويقال : يدلّ على الصواب بأن تدعوهم إلى آبائهم . وروى أبو بكر بن عياش عن الكلبي قال : كان زيد بن حارثة مملوكاً لخديجة بنت خويلد ، فوهبته خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه ، وتبناه ، فكانوا يقولون زيد بن محمد فنزل قوله : { ادعوهم لآبائهم } .