السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

{ ما جعل الله } أي : الذي له الحكمة البالغة والعظمة الباهرة { لرجل } أي : لأحد من بني آدم ولا غيره ، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب أولى ، وأشار إلى التأكيد بقوله تعالى : { من قلبين } وأكد الحقيقة وقررها وجلاها وصورها بقوله تعالى : { في جوفه } أي : ما جمع الله تعالى قلبين في جوف ؛ لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني أولاً ، ومنبع القوى بأسرها ومدبر البدن بإذن الله تعالى وذلك يمنع التعدد { وما جعل أزواجكم اللائي } أباح لكم التمتع بهن { تظاهرون منهن } كما يقول الإنسان للواحدة منهن : أنت عليّ كظهر أمي { أمهاتكم } بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها { وما جعل أدعياءكم } جمع دعيّ وهو من يدعي لغير أبيه { أبناءكم } حقيقة ليجعل لهم إرثكم ويحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء .

والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أمّاً لرجل زوجاً له ، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والمرأة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة ، وهما حالتان متنافيتان ولم ير أيضاً أن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابناً له ؛ لأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل .

وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه وعمه : يا زيد أتختار العبودية على الربوبية قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه عليه أعتقه وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون : تزوج امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيه ، وكذا قوله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } ( الأحزاب : 40 ) وروي أن رجلاً كان يسمى أبا معمر جميل بن معمر الفهري وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له : ما فعل الناس فقال له : بين مقتول وهارب فقال له : فما بالك إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك ؟ فقال : ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله » ، وقولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني .

وعن ابن عباس : «كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان فأكذبهم الله تعالى » وقيل سها في صلاته فقالت اليهود : له قلبان قلب مع أصحابه وقلب معكم ، وعن الحسن نزلت في أن الواحد يقول : لي نفسان نفس تأمرني ونفس تنهاني ، فإن قيل : ما وجه تعدية الظهار وأخواته بمن ؟ أجيب : بأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة ، فكان قولهم : تظاهر منها ، تباعد منها جهة الظهار ، فلما تضمن معنى التباعد منها عدي بمن .

فإن قيل : ما معنى قولهم : أنت علي كظهر أمي ، أجيب : بأنهم أرادوا أن يقولوا : أنت عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج ؛ لأنه عمود البطن ، ومنه حديث عمر : يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره ، ووجه آخر : وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرماً عندهم محظوراً ، وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول ، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله كظهر أمه ، وهو منكر وزور وفيه كفارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة .

وقرأ ابن عامر والكوفيون اللائي بالهمزة المكسورة والياء بعدها في الوصل ، وسهل الياء كالهمزة ورش ، والبزي وأبو عمرو مع المد والقصر ، وعن أبي عمرو والبزي أيضاً إبدالها ياء ساكنة مع المد لا غير ، وقالون وقنبل بالهمزة ولا ياء بعدها ، وقرأ تظهرون عاصم بضم التاء ، وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء مخففة ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مخففتين وألف بعد الظاء وفتح الهاء مخففة ، وابن عامر كذلك إلا أنه يشدد الظاء ، والباقون بفتح التاء والظاء والهاء مع تشديد الظاء والهاء ولا ألف بعد الظاء وقوله تعالى : { ذلكم } إشارة إلى كل ما ذكر وإلى الأخير { قولكم بأفواهكم } أي : مجرد قول لسان من غير حقيقة كالهذيان { والله } أي : المحيط علماً وقدرة وله جميع صفات الكمال { يقول الحق } أي : ماله حقيقة الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه فلا قدرة لأحد على نقضه ، فإن أخبر عن شيء فهو كما قال : { وهو } أي : وحده { يهدي السبيل } أي : يرشد إلى سبيل الحق .