فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

ثم ذكر سبحانه مثلاً توطئة وتمهيداً لما يتعقبه من الأحكام القرآنية ، التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } . وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية كما سيأتي ، وقيل : هي مثل ضربه الله للمظاهر ، أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمَّان ، وكذلك لا يكون الدعيّ ابناً لرجلين . وقيل : كان الواحد من المنافقين يقول : لي قلب يأمرني بكذا وقلب بكذا ؛ فنزلت الآية لردّ النفاق ، وبيان أنه لا يجتمع مع الإسلام كما لا يجتمع قلبان ، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلاً للعلم .

{ وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم } ، وقرأ الكوفيون وابن عامر : { اللائي } بياء ساكنة بعد همزة ، وقرأ أبو عمرو والبزي بياء ساكنة بعد ألف محضة . قال أبو عمرو بن العلاء : إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرؤوا بها ، وقرأ قنبل وورش بهمزة مكسورة بدون ياء . قرأ عاصم { تظاهرون } بضم الفوقية وكسر الهاء بعد ألف مضارع ظاهر ، وقرأ ابن عامر بفتح الفوقية والهاء وتشديد الظاء مضارع تظاهر ، والأصل : تتظاهرون . وقرأ الباقون : " تظهرون " بفتح الفوقية وتشديد الظاء بدون ألف ، والأصل تتظهرون . والظهار مشتق من الظهر ، وأصله : أن يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، والمعنى : وما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهنّ هذا القول كأمهاتكم في التحريم ، ولكنه منكر من القول وزور { و } كذلك { مَّا جَعَلَ } الأدعياء الذين تدّعون أنّهم { أَبْنَاءكُمْ } أبناء لكم . والأدعياء جمع دعيّ ، وهو الذي يدعي ابناً لغير أبيه ، وسيأتي الكلام في الظهار في سورة المجادلة . والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدّم من ذكر الظهار والادعاء ، وهو مبتدأ وخبره { قَوْلُكُم بأفواهكم } أي ليس ذلك إلا مجرد قول بالأفواه ولا تأثير له ، فلا تصير المرأة به أماً ولا ابن الغير به ابناً ، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوّة . وقيل : الإشارة راجعة إلى الادّعاء ، أي ادّعاؤكم أن ابناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له ، بل هو مجرّد قول بالفم { والله يَقُولُ الحق } الذي يحقّ اتباعه لكونه حقاً في نفسه لا باطلاً ، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أي يدلّ على الطريق الموصلة إلى الحق ، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق وترك قول الباطل والزور .

/خ6