قوله { مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } نزلت في أبي يَعْمُرَ{[43015]} ( و{[43016]} ) جميل بن مَعْمَرٍ الفِهْرِي وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمعه{[43017]} فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول : لي قلبان{[43018]} أعقِلُ بكُلِّ واحد منهما أَفْضَلُ من عقل محمد فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو مَعْمَرُ فَلَقِيَهُ أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال : انهزموا قال فما لك إحدى نعليك ( في يدك{[43019]} ) والأخرى في رجلك . قال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نَعْلَهُ في يده{[43020]} .
وقال الزُّهْرِيُّ ومقاتل : هذا{[43021]} مَثَلٌ ضربه الله للمظاهر من امرأته والمتبنيّ ولد{[43022]} غيره يقول{[43023]} : فكما لا يكون لرجل قلبان فكذلك{[43024]} لا يكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون لها ابناً ولا يكون ولداً واحداً{[43025]} من رَجُلَيْنِ . ( قال الزَّمخشري{[43026]} ) : قوله : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } أي ما جعل الله لرجل قلبين كما لم يجعل لرجلين أمين ولا لابن أَبَوَيْنِ{[43027]} ، ( وقوله : { وما جعل أزواجكم اللائي } ){[43028]} قرأ الكوفيونَ وابن عامر اللائي ههنا وفي سورة الطلاق بياء{[43029]} ساكنة بعد همزة مكسورة وهذا هو الأصل في هذا اللفظ لأنه جمع «التي » معنى وأبو عمرو والبَزِّيُّ{[43030]} اللائي بياء ساكنة وصلاً بعد ألف محضة في أحد وجهيها ، ولهما وجه آخر سيأتي ، ووجه هذه القراءة أنهما حذفا الياء بعد الهمزة تخفيفاً ثم أبدلا الهمزة ياء وسكناها لصيرورتها ياء مكسوراً ما قبلها{[43031]} ( إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس وإِنما القياس{[43032]} جعل الهمزة بين بين ) .
( قال أبو علي{[43033]} : لا يُقْدَمُ على مثل هذا البدل إلا أن يُسْمَعَ ){[43034]} . قال شهاب{[43035]} الدين : قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة قُريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها . وقال بعضهم : لم يبدلوا وإنما كتبوا فعبر عنهم القرآن{[43036]} بالإبدال . وليس بشيء . وقال أبو علي : «أو غير بإظهار أبي عمرو اللاَّئي يَئِسْنَ يدل على أنه يشهد{[43037]} ولم يبدل » وهذا غير لازم لأن البدل عارض فلذلك لم يدغم وقرأها ورش بهمزةٍ مُسَهَلَةٍ بَيْنَ بَيْنَ{[43038]} ، وهذا الذي زعم بعضهم أنه لم يصح عنهم غيره وهو تخفيف قياسي ، وإذا وقفوا سكنوا الهمزة ومتى سكنوها استحال تسهيلها بين بين لزوال حركتها فتقلب ياءً لوقوعها ساكنةٌ بعد كسرة وليس ( هذا ){[43039]} من مذهبهم تخفيفها{[43040]} فتقر همزة ، وقرأ قُنْبُل وورش بهمزة{[43041]} مكسورة دون ياء حذف الياء واجتزأ عنها بالكسرة وهذا الخلاف بعينه جارٍ في المجادلة{[43042]} أيضاً والطلاق{[43043]} .
قوله : «تَظَاهَرُونَ » قرأ عاصمٌ تُظَاهِرُونَ بضم التاء وكسر الهاء بعد ألف ، مضارع «ظَاهَرَ » وابن عامر «تَظَّاهَرون » بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارع «تَظَاهَرَ » والأصل «تَتَظَاهَرُونَ » بتاءين فأدغم{[43044]} . والأخوان{[43045]} كذلك إلا أنهما خففا الظاء والأصل أيضاً بتاءين ( إلا أنهما{[43046]} ) حذفا إحداهما ، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو إما الإدغام وإما الحذف وقد تقدم تحقيقه في نحو تَذّكر وتَذَّكَّرون{[43047]} مخففاً ومثقلاً وتقدم نحوه في البقرة أيضاً . والباقون «تَظَّهرُونَ » بفتح التاء والحاء ( وتشديد الظاء ){[43048]} والهاء دون ألف ، والأصل «تَتَظَهَّرُونَ » بتاءين فأدغم نحو «تذكرون » وقرأ الجميع{[43049]} في المجادلة كقراءتهم في قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ } إلا الأخوين ، فإنهما خالفا أصلهما هنا فقرءا في المجادلة بتشديد الظاء كقراءة ابن عامر .
والظهار مشتق من الظَّهْر ، وأصله أن يقول الرجل لامرأته{[43050]} : «أنْتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي » وإنما لم يقرأ الأخوان بالتخفيف في المجادلة لعدم المسوِّغ{[43051]} له وهو الحذف ؛ لأن الحذف إنما كَان لاجتماع مثلين وهما التاءان وفي المجادلة ياء من تحت وتاء مِن فوق فلم يجتمع مثلان فلا حذف فاضطر إلا الإدغام ، وهذا ما قرئ به متواتراً{[43052]} ، وقرأ ابن وثاب «تَظهَّرُونَ » بفتح التاء والظاء مخففة وتشديد{[43053]} الهاء والأصل : تَتَظَهَّرُونَ مضارع «تَظَهَّر » مشدداً ، فحذف إحدى التاءين ، وقرأ الحسن «تُظَهِّرُونُ » بضم التاء وفتح الظاء مخففة وتشديد الهاء مكسورة مضارع «ظَهَّرَ » مشدداً{[43054]} وعن أبي عمرو «تَظْهَرُونَ » بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع «ظَهَرَ » مخففاً{[43055]} وقرأ أُبَيٌّ - وهي في مصحفه كذلك - تَتَظَهَّرُونَ - بتاءين{[43056]} فهذه تسع قراءات ، أربعٌ متواترة ، وخمسٌ شاذة ، وأخذ هذه الأفعال من لفظ «الظَّهْرِ » كأخذ «لَبَّى » من التَّلْبِيَةِ ، و «أفف » من أُفّ . وإنما عدي «بمن » لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل : يَتَبَاعَدُونَ من نسائهم بسبب الظهار كما تقدم في البقرة في تعدية الإيلاء ( بِمِنْ{[43057]} ) .
الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أَنْتِ عَلَيَّ كظهرِ أمي ، فقال الله تعالى : مَا جَعَلَ اللَّهُ نِسَاءَكُمْ اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم ولكنه منكر وزور . وفيه كفارة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المُجَادَلَة .
قوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } ( يعني ){[43058]} ما جعل من تبنّيتموهم أبناءكم ، ( نسخ{[43059]} ) التبني{[43060]} ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن يدعوه الناس إليه ويرث ميراثه ، «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه{[43061]} وبين{[43062]} حمزة بن عبد المطلب » فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش وكانت تحت زيدِ بن حارثة قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية{[43063]} ، ونسخ التبني . واعلم أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً حتى كان للزوج أن يتزوج بها من جديدٍ .
قوله : «ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ » مبتدأ وخبر أيْ دعاؤكم الأدعياء أبناء مجرد قول لسان{[43064]} من غير حقيقة ، والأَدْعِيَاءُ جمع دَعِيٍّ بمعنى مَدْعُوٍّ فعيل بمعنى مفعول وأصله دَعِيوٌ فأدغم{[43065]} ولكن جمعه على أَدْعِيَاء غير مقيس ؛ لأن «أفعلاء » إنما يكون جمعاً لفَعِيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو : تَقِيّ وأَتْقِيَاء ، وغَنِيّ وأَغنياء ، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان قياس جمعه على فَعْلَى كقَتِيل وقَتْلَى ، وجَرِيح ، وَجَرْحَى ، ونظير هذه ( الآية{[43066]} في ) الشذوذ ، قولهم : أَسِيرٌ وأُسَرَاء ، والقياس : أَسْرَى{[43067]} ، وقد سمع فيه الأصل{[43068]} .
واعلم أن الله تعالى قال ههنا { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } وقال في قوله : { وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [ التوبة : 30 ] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب ، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم .
قوله : { والله يَقُولُ الحق } أي قوله الحق { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أي يرشد إلى سبيل الحق وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للعاقل أن يكون قوله إما من عقل أو شرع فإذا قال : فلانُ بنُ فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم تعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأةٍ فولدت لِستةِ أشْهُرٍ ولداً وكانت{[43069]} الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول : إنه ابنه شرعاً ، وفي الدَّعِيِّ لم توجد{[43070]} الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق ، لأن أباه مشهور ظاهر وأشار فيه من وجه آخر إلى أن قولهم هذه زوجة الابن فتحرم فقال الله هي لك حلال فقولهم لا اعتبار له لأنه بأفواههم كأصوات البهائم وقوله الحقّ فيجب اتباعه وهو يهدي السبيل فيجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً{[43071]} .