معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (15)

قوله تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } أي : بالمعروف ، وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ، { واتبع سبيل من أناب إلي } أي : دين من أقبل إلى طاعتي ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أبا بكر ، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، فقالوا له : قد صدقت هذا الرجل وآمنت به . قال : نعم ، هو صادق ، فآمنوا به ، ثم حملهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا ، فهؤلاء لهم سابقة الإسلام ، أسلموا بإرشاد أبي بكر . قال الله تعالى : { واتبع سبيل من أناب إلي } يعني أبا بكر ، { ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } . وقيل : نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقاص وأمه ، وقد مضت القصة . وقيل : الآية عامة في حق كافة الناس .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (15)

وقوله : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } أي : إن حَرَصَا عليك كل الحرص على أن تتابعهما{[22955]} على دينهما ، فلا تقبل منهما ذلك ، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا ، أي : محسنًا إليهما ، { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يعني : المؤمنين ، { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .

قال الطبراني في كتاب العشرة : حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد ، حدثنا مسلمة بن علقمة ، عن داود بن أبي هند [ عن أبي عثمان النهدي ]{[22956]} : أن سعد بن مالك قال : أنزلت فيَّ هذه الآية : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } الآية ، وقال : كنت رجلا برًا بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ، ما هذا الذي أراك قد أحدثت ؟ لَتَدَعَنّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت ، فَتُعَيَّر بي ، فيقال : " يا قاتل أمه " . فقلت : لا تفعلي يا أمَه ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء . فمكثتْ يومًا وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت ، فمكثتْ يومًا [ آخر ]{[22957]} وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحتْ قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه ، تعلمين والله لو كانت لكِ مائة نفس فخَرجت نَفْسا نَفْسًا ، ما تركت ديني هذا لشيء ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت لا تأكلي . فأكلتْ{[22958]} .


[22955]:- في أ: "تبايعهما".
[22956]:- زيادة من أسد الغابة، والدر المنثور.
[22957]:- زيادة من ت، ف.
[22958]:- وذكره ابن الأثير في أسد الغابة (2/216) عن داود بن أبي هند.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وإن جاهدك أيها الإنسان والداك على أن تشرك بي في عبادتك إياي معي غيري مما لا تعلم أنه لي شريك ، ولا شريك له تعالى ذكره علوّا كبيرا ، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك بي ، وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا يقول : وصاحبهما في الدنيا بالطاعة لهما فيما لا تبعة عليك فيه فيما بينك وبين ربك ولا إثم . وقوله : وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ يقول : واسلك طريق من تاب من شركه ، ورجع إلى الإسلام ، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليّ : أي من أقبل إليّ .

وقوله : إليّ مَرْجِعُكُمْ فأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فإن إليّ مصيركم ومعادكم بعد مماتكم فأخبركم بجميع ما كنتم في الدنيا تعملون من خير وشرّ ، ثم أجازيكم على أعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته .

فإن قال لنا قائل : ما وجه اعتراض هذا الكلام بين الخبر عن وصيتي لقمان ابنه ؟ قيل ذلك أيضا ، وإن كان خبرا من الله تعالى ذكره عن وصيته عباده به ، وأنه إنما أوصى به لقمان ابنه ، فكان معنى الكلام : وَإذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يا بُنَيّ لا تُشْرِكْ باللّهِ إنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ولا تطع في الشرك به والديك وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا فإن الله وصّى بهما ، فاستؤنف الكلام على وجه الخبر من الله ، وفيه هذا المعنى ، فذلك وجه اعتراض ذلك بين الخبرين عن وصيته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (15)

وتقدم الكلام على نظير قوله { وإن جاهداك لتشرك بي إلى فلا تطعهما } في سورة العنكبوت ( 8 ) ، سوى أنه قال هنا { على أن تُشرِك بي } وقال في سورة العنكبوت { لِتُشْرِك بِي } فأما حرف { على } فهو أدلّ على تمكن المجاهدة ، أي مجاهدة قوية للإشراك ، والمجاهدة : شدة السعي والإلحاح . والمعنى : إن ألحَّا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما . وهذا تأكيد للنهي عن الإصغاء إليهما إذا دعَوَا إلى الإشراك . وأما آية العنكبوت فجيء فيها بلام العلة لظهور أن سعداً كان غنياً عن تأكيد النهي عن طاعة أمه لقوة إيمانه .

وقال القرطبي : إن امرأة لقمان وابنه كانا مُشركَيْن فلم يزل لقمان يعظهما حتى آمنا ، وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتضاحاً .

والمصاحبة : المعاشرة . ومنه حديث معاوية بن حيدة « أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أحقُّ الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمَّك » الخ .

والمعروف : الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن ، أي صاحبْ والديْك صحبةً حسنة ، وانتصب { معروفاً } على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق ل { صاحِبْهُما ، } أي صِحاباً معروفاً لأمثالهما . وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما ، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر ، وشمل ذلك أن يدعو الوَالدُ إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يُطاعَان إذا أمرَا بمعصية . وفهم من ذكر { وصاحبْهما في الدنيا معروفاً } أثر قوله { وإن جاهداك على أن تشرك بي } الخ . . . أن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما . وفي الحديث : أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي جاءت راغبة أفأصلها ؟ فقال : نعم ، صلي أمَّككِ ، وكانت مشركة وهي قتيلة بنت عبد العزى . وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما ، وإن كان منكراً للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا : إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر ، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحلّ للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه . واتباعُ سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله ، أي الراجعين إليه ، وقد تقدم ذكر الإنابة في سورة الروم ( 33 ) عند قوله { منيبين إليه } وفي سورة هود ( 88 ) . فالمراد بمن أناب : المقلعون عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك .

وجملة { ثم إلي مرجعكم } معطوفة على الجمل السابقة و { ثم } للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها ، أي وعلاوة على ذلك كله إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون . وضمير الجمع للإنسان والوالدين ، أي مرجع الجميع . وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص ، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام . وفرع على هذا { فأنبئكم } الخ . . . والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة . وجملة { ثم إليّ مرجعكم } وَعد ووعيد . وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف .