قوله تعالى : { له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } أي : كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين : اتخذ الله ولدا نظيره في سورة مريم : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه } ( مريم-88 ) . { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } من المؤمنين . { ألا إن الله هو الغفور الرحيم * }
وقوله : { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وكعب الأحبار : أي فرقًا ، من العظمة { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ } كقوله : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ] .
وقوله : { أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } إعلام بذلك وتنويه به .
وقوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ يقول تعالى ذكره : تكاد السموات يتشققن من فوق الأرضين ، من عظمة الرحمن وجلاله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ قال : يعني من ثقل الرحمن وعظمته تبارك وتعالى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ : أي من عظمة الله وجلاله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ تَكادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ قال : يتشقّقن في قوله : مُنْفَطِرٌ بِهِ قال : منشقّ به .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ يقول : يتصدّعن من عظمة الله .
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : حدثنا حسين بن محمد ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : جاء رجل إلى كعب فقال : يا كعب أين ربنا ؟ فقال له الناس : دقّ الله تعالى ، أفتسأل عن هذا ؟ فقال كعب : دعوه ، فإن يك عالماً ازداد ، وإن يك جاهلاً تعلم . سألت أين ربنا ، وهو على العرش العظيم متكىء ، واضع إحدى رجليه على الأخرى ، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة ، وكثافتها خمس مئة سنة ، حتى تمّ سبع أرضين ، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة ، وكثافتها خمس مئة سنة ، والله على العرش متكىء ، ثم تفطر السموات . ثم قال كعب : اقرأوا إن شئتم تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ . . . الاَية .
وقوله : وَالمَلائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول تعالى ذكره : والملائكة يصلون بطاعة ربهم وشكرهم له من هيبة جلاله وعظمته ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَالمَلائِكَةُ يَسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ قال : الملائكة يسبحون له من عظمته .
وقوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ يقول : ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ قال : للمؤمنين . يقول الله عزّ وجلّ : ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده ، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها .
{ تكاد السموات } وقرأ نافع والكسائي بالياء . { يتفطرن } يتشققن من عظمة الله ، وقيل من ادعاء الولد له . وقرأ البصريان وأبو بكر " ينفطرن " بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر ، وقرئ " تتفطرن " بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر . { من فوقهن } أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية ، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة ، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى . وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس . { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة ، وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد ، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة . { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته ، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه ، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته .
وقرأ نافع والكسائي : «يكاد » بالياء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وعاصم : «تكاد » بالتاء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ونافع وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وقتادة : «يتفطرون » من التفطر ، وهو مطاوع فطرت . وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن والأعرج وأبو رجاء ، والجحدري : «ينفطرون » من الإفطار وهو مطاوع فطر ، والمعنى فيهما : يتصدعن ويتشققن من سرعة جريهن خضوعاً وخشية من سلطان الله تعالى وتعظيماً له وطاعة ، وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه مردود ، لأن الله تعالى لا يوصف به .
وقوله : { من فوقهن } أي من أعلاهن . وقال الأخفش علي بن سليمان : الضمير للكفار .
قال القاضي أبو محمد : المعنى من فوق الفرق والجماعات الملحدة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات يتفطرن{[10108]} ، فهذه الآية على هذا كالآية التي في :
{ كهيعص }{[10109]} [ مريم : 1 ] . وقالت فرقة معناه : من فوق الأرضين ، إذ قد جرى ذكر الأرض ، وذكر الزجاج أنه قرئ «يتفطرن ممن فوقهن » .
وقوله تعالى : { يسبحون بحمد ربهم } قيل معناه : يقولون سبحان الله ، وقيل معناه : يصلون لربهم .
وقوله تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } قالت فرقة : هذا منسوخ بقوله تعالى : في آية أخرى : { ويستغفرون للذين آمنوا }{[10110]} وهذا قول ضعيف ، لأن النسخ في الإخبار لا يتصور . وقال السدي ما معناه : إن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في المؤمن ، فكأنه قال : { ويستغفرون لمن في الأرض } من المؤمنين ، إذ الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وقالت فرقة : بل هي على عمومها ، لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران الله تعالى للكفرة على أن يبقوا كفرة ، وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم ، وكأن الملائكة تقول : اللهم اهد أهل الأرض واغفر لهم . ويؤيد هذا التأويل تأكيده صفة الغفران والرحمة لنفسه بالاستفتاح ، وذلك قوله : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } أي لما كان الاستغفار لجميع من في الأرض يبعد{[10111]} أن يجاب ، رجا عز وجل بأن استفتح الكلام تهيئة لنفس السامع فقال : { ألا إن الله } هو الذي يطلب هذا منه ، إذ هذه أوصافه ، وهو أهل المغفرة .
{ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } .
جملة مستأنفة مقررة لمعنى جملة { وهو العلي العظيم } [ الشورى : 4 ] ولذلك لم تعطف عليها ، أي يكاد السماوات على عظمتهن يتشققن من شدّة تسخرهن فيما يسخرهُن الله له من عمل لا يخالف ما قدّره الله لهنّ ، وأيضاً قد قيل : إن المعنى : يكاد السماوات يتفطرن من كثرة ما فيهن من الملائكة والكواكب وتصاريف الأقدار ، فيكون في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " أطَّتتِ السماء وبِحَقها أن تَئطّ . والذي نفسُ محمّد بيده ما فيها موضع شِبر إلا فيه جبهة مَلَك ساجد يسبح الله بحمده " {[367]} ويرجّحه تعقيبه بقوله تعالى : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } كما سيأتي .
وقرأ نافع وحده والكسَائِي { يكاد } بتحتية في أوّله . وقرأه الباقون بفوقية وهما وجهان جائزان في الفعل المسند إلى جمع غيرِ المذكر السالم وخاصة مع عدم التأنيث الحقيقي . وتقدم في سورة مريم ( 90 ) قوله : { يكاد السماوات يتفَطَّرْنَ منه } . وقرأ الجمهور { يتفطرن } بتحتية ثم فوقية وأصله مضارع التفطر ، وهو مطاوع التفطير الذي هو تكرير الشقّ . وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بِتَحتيّة ثم نون وهو مضارع : انفطَر ، مطاوع الفطر مصدر فطَر الثلاثي ، إذا شَقَّ ، وليس المقصود منه على القراءتين قبول أثر الفاعل إذ لا فاعل هنا للشقّ وإنّما المقصود الخبر بحصول الفعل ، وهذا كثير ، كقولهم : انشقّ ضوء الفجر ، فلا التفات هنا لما يقصد غالباً في مادة التفعل من تكرير الفعل إذ لا فاعل للشقّ هنا ولا لتكرره ، فاستوت القراءتان في باب البلاغة ، على أنّ استعمال صيغ المطاوعة في اللّغة ذو أنحاء كثيرة واعتبارات كما نبه عليه كلام الرضيّ في « شرح الشافية » .
وقوله : { من فوقهن } يجوز أن يكون ضمير { فوقهن } عائداً على { السماوات } ، فيكون المجرور متعلقاً بفعل { يتفطرن } بمعنى : أن انشقاقهن يحصل من أعلاهنّ ، وذلك أبلغ الانشقاق لأنه إذا انشقّ أعلاهن كان انشقاق ما دونه أولى ، كما قيل في قوله تعالى : { وهي خاوية على عروشها } كما تقدم في سورة البقرة ( 259 ) وفي سورة الحج ( 45 ) . وتكون { من } ابتدائيّة .
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى { الأرض } من قوله تعالى : { وما في الأرض } [ الشورى : 4 ] على تأويل الأرض بأرضين باعتبار أجزاء الكرة الأرضية أو بتأويل الأرض بسكانها من باب { واسْأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
وتكون { من } زائدة زيادتها مع الظروف لتأكيد الفوقية ، فيفيد الظرف استحضار حالة التفطر وحالة موقعه ، وقد شبه انشقاق السماء بانشقاق الوَردة في قوله تعالى : { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدِّهان } [ الرحمن : 37 ] . والوردة تنشق من أعلاها حين ينفتح بُرْعُومُها فيوشك إنْ هُن تفطَّرْنَ أن يخْررْنَ على الأرض ، أي يكاد يقع ذلك لِما فشا في الأرض من إشراك وفساد على معنى قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إِدًّا يكاد السماوات يتفطَّرْنَ منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً } [ مريم : 88 90 ] ويرجحه قوله الآتي : { والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم } [ الشورى : 6 ] . وعن ابن عباس { يكاد السماوات يتفطَّرن } من قول المشركين { اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] .
{ والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } .
جملة عطفت على جملة { يكاد السماوات يتفطرن } لإفادتها تقرير معنى عظمة الله تعالى وجلاله المدلول عليهما بقوله : { وهو العلي العظيم } [ الشورى : 4 ] .
مرتبة واجب الوجود سبحانه وهو أهل التنزيه والحمد ومرتبة الروحانيات وهي الملائكة وهي واسطة المتصرف القدير ومفيض الخير في تنفيذ أمره من تكوين وهدى وإفاضة خير على النّاس ، فهي حين تتلقى من الله أوامره تسبِّحُه وتحمده ، وحين تفيض خيرات ربّها على عباده تستغفر للذين يتقبلونها تقبل العبيد المؤمنين بربّهم ، وتلك إشارة إلى حصول ثمرات إبلاغها ، وذلك بتأثيرها في نظم أحوال العالم الإنساني . ومرتبة البشرية المفضلة بالعقل إذ أكمله الإيمانُ وهي المراد ب ( من في الأرض ) .