الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (5)

قوله تعالى : " تكاد السماوات " قراءة العامة بالتاء . وقرأ نافع وابن وثاب والكسائي بالياء . " يتفطرن " قرأ نافع وغيره بالياء والتاء والتشديد في الطاء ، وهي قراءة العامة . وقرأ أبو عمرو وأبو بكر والمفضل وأبو عبيد " ينفطرن " من الانفطار ، كقوله تعالى : " إذا السماء انفطرت " [ الانفطار : 1 ] وقد مضى في سورة " مريم " بيان هذا{[13461]} . وقال ابن عباس : " تكاد السماوات يتفطرن " أي تكاد كل واحدة منها تنفطر فوق التي تليها ، من قول المشركين : " اتخذ الله ولدا " {[13462]} [ البقرة : 116 ] . وقال الضحاك والسدي : " يتفطرن " أي يتشقق من عظمة الله وجلاله فوقهن . وقيل : " فوقهن " : فوق الأرضين من خشية الله لو كن مما يعقل .

قوله تعالى : " والملائكة يسبحون بحمد ربهم " أي ينزهونه عما لا يجوز في وصفه ، وما لا يليق بجلال . وقيل : يتعجبون من جرأة المشركين ، فيذكر التسبيح في موضع التعجب . وعن علي رضي الله عنه : أن تسبيحهم تعجب مما يرون من تعرضهم لسخط الله . وقال ابن عباس : تسبيحهم خضوع لما يرون من عظمة الله . ومعنى " بحمد ربه " : بأمر ربهم ، قاله السدي . " ويستغفرون لمن في الأرض " قال الضحاك : لمن في الأرض من المؤمنين . وقاله السدي . بيانه في سورة غافر : " ويستغفرون للذين آمنوا " {[13463]} [ غافر : 7 ] . وعلى هذا تكون الملائكة هنا حملة العرش . وقيل : جميع ملائكة السماء ، وهو الظاهر من قول الكلبي . وقال وهب بن منبه : هو منسوخ بقوله : " ويستغفرون للذين آمنوا " . قال المهدوي : والصحيح أنه ليس بمنسوخ ؛ لأنه خبر ، وهو خاص للمؤمنين . وقال أبو الحسن الماوردي عن الكلبي : إن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم ، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس - وهو جد أبي نوح عليهما السلام - وسألاه أن يدعو لهما ، سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم . قال أبو الحسن بن الحصار : وقد ظن بعض من جهل أن هذه الآية نزلت بسبب هاروت وماروت ، وأنها منسوخة بالآية التي في المؤمن ، وما علموا أن حملة العرش مخصوصون بالاستغفار للمؤمنين خاصة ، ولله ملائكة أخر يستغفرون لمن في الأرض . الماوردي : وفي استغفارهم لهم قولان : أحدهما : من الذنوب والخطايا ، وهو ظاهر قول مقاتل . الثاني : أنه طلب الرزق لهم والسعه عليهم . قاله الكلبي .

قلت : وهو أظهر ، لأن الأرض تعم الكافر وغيره ، وعلى قول مقاتل لا يدخل فيه الكافر . وقد روي في هذا الباب خبر رواه عاصم الأحول عن أبي عثمان عن سلمان قال : إن العبد إذا كان يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة : صوت معروف من آدمي ضعيف ، كان يذكر الله تعالى في السراء فنزلت به الضراء ، فيستغفرون له . فإذا كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء . قالت الملائكة : صوت منكر من آدمي كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء فلا يستغفرون الله له . وهذا يدل على أن الآية في الذاكر لله تعالى في السراء والضراء ، فهي خاصة ببعض من في الأرض من المؤمنين . والله أعلم . ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار طلب الحلم والغفران في قوله تعالى : " إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا " {[13464]} [ فاطر : 41 ] - إلى أن قال إن كان حليما غفورا " ، وقوله تعالى : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " {[13465]} [ الرعد : 6 ] . والمراد الحلم عنهم وألا يعالجهم بالانتقام ، فيكون عاما . قاله الزمخشري . وقال مطرف : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين . وقد تقدم{[13466]} . " ألا إن الله هو الغفور الرحيم " قال بعض العلماء : هيَّب وعظم جل وعز في الابتداء ، وألطف وبشر في الانتهاء .


[13461]:راجع ج 11 ص 156.
[13462]:آية 116 سورة البقرة.
[13463]:آية 7.
[13464]:آية 41 سورة فاطر.
[13465]:آية 6 سورة الرعد.
[13466]:راجع ج 15 ص 295.