تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (5)

الآية 5 وقوله تعالى : { تكاد السماوات يتفطّرن من فوقهن } يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : { تكاد السماوات يتفطّرن } لذنوب أهل الأرض وفسادهم وعِظم ما قالت الملاحدة في الله من الولد والشريك والصاحبة ، كادت تتشقّق لذلك ، وتتساقط ، كقوله في آية أخرى : { تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هكذا } { أن دعوا للرحمن ولدا } [ مريم : 90و91 ] .

بيّن في هذه الآية أنها كادت تتفطّر وتنشق لماذا ؟ وهو دعواهم للرحمن ولدا . فلذلك يحتمل ههنا هذا المعنى ، والله أعلم .

والثاني : كادت تنشق لبكاء أهلها عليها وإشفاقك ورحمتك{[18649]} على أهل الأرض .

ويحتمل تكاد تنشق لعظمة الرب وجلاله وعِظم سلطانه كقوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله } [ الحشر : 21 ] أخبر أنه لو جعل في الجبال والأرض والسماء من المعنى والتمييز ما جعل في البشر لكانت هذه الأشياء بالوصف الذي ذكر من الخضوع{[18650]} لربها ، وهو كما ذكر في آية أخرى : { وإن من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإن منها لما يشّقّق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } [ البقرة : 74 ] يخبر عن شدة خضوع هذه الأشياء وخشوعها لربها وتذلّلها له وعناد الكفرة واستكبارهم وقلة خضوعهم وخشوعهم لربهم ، والله أعلم .

ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { تكاد السماوات يتفطّرن } لكثرة أهلها وازدحامهم فيها وعبادتهم لربهم على ما ذُكر في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أطّت السماء وحق لها أن تئطّ ما من موضع قدم فيها إلا وملك فيها ساجد أو راكع أو قائم ، يسبّح الله تعالى ، ويصلي له ) [ الترمذي 2312 ] والله أعلم .

وقوله تعالى : { والملائكة يسبّحون بحمد ربهم } هذا يدل على أن ما ذكر من تفطّر السماء لعظم ما يقول الملاحدة فيه من الشريك والولد والصاحبة حين{[18651]} قال على إثره : { والملائكة يسبّحون بحمد ربهم } أي الملائكة ينزهونه ، ويُبرئونه ، عما يقولون فيه ، ويُثنون عليه بالثناء الذي يليق به/488-ب/ ويصفونه بما هو أهله ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } امتحنهم ، جل ، وعلا ، بالتسبيح له والثناء عليه والاستغفار لأهل الأرض [ على ]{[18652]} ما ذكر .

ثم قال بعضهم : إن قوله { ويستغفرون لمن في الأرض } منسوخ بقوله تعالى : { فاغفر للذين تابوا } [ غافر : 7 ] لأن الأول عام لجميع أهل الأرض ، والثاني خاص . لكن هذا بعيد محال : أن يستغفر الملائكة ، ويطلبوا التجاوز من ربهم لمن يقول له بالشريك والولد والصاحبة .

وإذا كان كذلك كان استغفارهم يرجع إلى المؤمنين خاصة على ما ذكر في آية أخرى : { ويستغفرون للذين آمنوا } وبقوله : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [ غافر : 7 ] فكان المراد منه العموم ، ثم صار منسوخا بورود الخاص متراخيا ، والله أعلم .

ثم إن كان استغفارهم لجملة أهل الأرض على ما يقولون فهو عبارة عن طلب السبب الذي به تقع لهم المغفرة ، وهو التوبة عن الشرك ، والتوحيد . فيكون هذا سؤال التوحيد والهداية لتقع المغفرة لهم بذلك التجاوز ، ويصيروا لذلك [ أهلا ]{[18653]} .

وعلى ذلك يُخرّج استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه أنه سؤال وطلب السبب الذي به تقع المغفرة ، وأن يجعله أهلا لذلك . وكذلك أمر الرسل عليهم السلام قومهم بالاستغفار ربهم ، وهو ما قال هود عليه السلام : { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } [ هود : 52 ] وقول نوح : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا } [ نوح : 10 ] لا يحتمل أن يقولوا لهم : اطلبوا واسألوا ربكم السبب الذي به تقع المغفرة لكم ، وهو التوبة عما هم فيه ، واختيار الهداية والرشد لأنفسهم ليكونوا لذلك أهلا .

فعلى ذلك يُخرّج استغفار الملائكة إن كان لجملة أهل الأرض على ما يقول بعض أهل التأويل .

وعلى هذا لا حاجة إلى النسخ ، ولا يحتمله .


[18649]:في الأصل وم: و رحمة.
[18650]:من م، في الأصل: الخصوص.
[18651]:في الأصل وم: حيث.
[18652]:ساقطة من الأصل وم.
[18653]:ساقطة من الأصل وم.