الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (5)

قرىء «تكاد » بالتاء والياء . وينفطرن ، ويتفطرن . وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة «تتفطرن » بتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر ، روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تشممن . ومعناه : يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته ، يدل عليه مجيئه بعد العلي العظيم . وقيل : من دعائهم له ولداً ، كقوله تعالى : { تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [ مريم : 90 ] .

فإن قلت : لم قال : { مِن فَوْقِهِنَّ } ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة : فوق السموات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : { يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي يبتدىء الانفطار من جهتهنّ الفوقانية . أو : لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السموات ، فكان القياس أن يقال : ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } [ الحج : 19-20 ] فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة . وقيل : من فوقهنّ : من فوق الأرضين .

فإن قلت : كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله ؟ وقد قال الله تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملئكة } [ البقرة : 161 ] فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم ؟ قلت : قوله : { لِمَن فِى الأرض } يدل على جنس أهل الأرض ، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم ؛ فيجوز أن يراد به هذا وهذا .

وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون ، فما أراد الله إلا إياهم . ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ غافر : 7 ] وحكايته عنهم { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } [ غافر : 7 ] كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعاً في استغفارهم ، فكيف للكفرة . ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار : طلب الحلم والغفران في قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] إلى أن قال : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الإسراء : 44 ] وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] والمراد : الحلم عنهم وأن لا يعالجهم بالانتقام فيكون عاماً .

فإن قلت : قد فسرت قوله تعالى : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ } بتفسيرين . فما وجه طباق ما بعده لهما ؟ قلت : أما على أحدهما فكأنه قيل : تكاد السموات ينفطرن هيبة من جلاله واحتشاماً من كبريائه ، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفاً بعد صفوف يداومون - خضوعاً لعظمته - على عبادته وتسبيحه وتحميده ، ويستغفرون لمن في الأرض خوفاً عليهم من سطواته . وأما على الثاني فكأنه قيل : يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء ، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون ، مختارين غير ملجئين ، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرؤوا من تلك الكلمة ومن أهلها . أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم ، لما عرفوا في ذلك من المصالح ، وحرصاً على نجاة الخلق ، وطمعاً في توبة الكفار والفساق منهم .