السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (5)

ولما كان العلو مستلزماً للقدرة قال تعالى : { وهو العلي } على كل شيء علو رتبة وعظمة ومكانة لا علو مكان وملابسة { العظيم } بالقدرة والقهر والاستعلاء .

وقوله تعالى : { تكاد السماوات } قرأه نافع والكسائي بالياء التحتية ، والباقون بالفوقية وقوله تعالى { يتفطرن } أي : يشققن قرأه شعبة وأبو عمرو بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففة ، والباقون بعد الياء بتاء فوقية مفتوحة وفتح الطاء مشددة وقوله تعالى : { من فوقهن } في ضميره ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه عائد على السماوات أي : كل واحدة منهن تنفطر فوق التي تليها من عظمة الله تعالى أو من قول المشركين : { اتخذ الله ولداً } ( الكهف : 4 ) كما في سورة مريم أي : يبتدئ انفطارهن من هذه الجهة فمن : لابتداء الغاية متعلقة بما قبلها ، الثاني : أنه يعود على الأرضين لتقدم ذكر الأرض ، الثالث : أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين قاله الأخفش الصغير ، وقال الزمخشري : كلمة الكفر أي : على التفسير الثاني إنما جاءت من الذين تحت السماوات فكان القياس أن يقال : ينفطرن من تحتهن أي : من الجهة التي جاءت منها الكلمة ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن ينفطرن أي : من الجهة التي فوقهن دون الجهة التي تحتهن ، ونظيره في المبالغة قوله عز وجل { يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم ( 19 ) يُصهر به ما في بطونهم } ( الحج : 19 20 ) فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة ا . ه .

ولما بين تعالى أن سبب كيدودة انفطارهن جلال العظمة التي منها كثرة الملائكة وشناعة الكفر ، بين لها سبباً آخر وهو عظم قول الملائكة فقال تعالى : { والملائكة يسبّحون } أي : يوقعون التنزيه لله تعالى متلبسين { بحمد ربهم } أي : بإثبات الكمال للمحسن إليهم تسبيحاً يليق بحالهم فلهم بذلك زجل وأصوات لا تحملها العقول ولا تثبت لها الجبال .

تنبيه : عدل عن التأنيث ولم يقل يسبحن مراعاة للفظ التذكير وضمير الجمع ، إشارة إلى قوة التسبيح وكثرة المسبحين ، فإن قيل : قوله تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } عام فيدخل فيه الكفار ولقد لعنهم الله تعالى فقال سبحانه : { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } ( البقرة : 161 ) فكيف يكونون لاعنين لهم ومستغفرين لهم ؟ أجيب : بوجوه ؛ الأول : أنه عام مخصوص بآية غافر { ويستغفرون للذين آمنوا } ( غافر : 7 ) ، الثاني : أن قوله تعالى : { لمن في الأرض } لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صح ذلك ، الثالث : يجوز أن يكون المراد بالاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } إلى أن قال تعالى { إنه كان حليماً غفوراً } ( فاطر : 41 ) الرابع : يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم ، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم ، فإنا نقول اللهم اهد الكفار وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر ، وهذا استغفار في الحقيقة وقوله تعالى : { ألا إن الله } أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال { هو } أي : وحده { الغفور الرحيم } تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة لله تعالى ، وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة .