ثم قال : { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { تكاد } بالتاء { يتفطرن } بالياء والنون ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة { تكاد } بالتاء { يتفطرن } بالياء والتاء ، وقرأ نافع والكسائي : { يكاد } بالياء { يتفطرن } أيضا بالتاء ، قال صاحب «الكشاف » : وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة { تتفطرن } بالتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر ، روي في نوادر ابن الإعرابي : الإبل تتشمسن .
المسألة الثانية : في فائدة قوله { من فوقهن } وجوه ( الأول ) روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها .
واعلم أن هذا القول سخيف ، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه ، ويدل على فساده وجوه : ( الأول ) أن قوله { من فوقهن } لا يفهم منه ممن فوقهن ( وثانيها ) هب أنه يحمل على ذلك ، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها ، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها ، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد » ( وثالثها ) لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السموات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلهية والقهر والقدرة ؟ فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة ( والوجه الثاني ) في تأويل الآية ما ذكره صاحب «الكشاف » : وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السموات ، وكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، ودع الجهة التي تحتهن ، ونظيره في المبالغة قوله تعالى ؛ { يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود } فجعل مؤثرا في أجزائه الباطنة ( الوجه الثالث ) في تأويل الآية أن يقال { من فوقهن } أي من فوق الأرضين ، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية { له ما في السموات وما في الأرض } ثم قال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } أي من فوق الأرضين ( والوجه الرابع ) في التأويل أن يقال معنى { من فوقهن } أي من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها ، وتلك الجهة هي فوق ، فقوله { من فوقهن } أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها .
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت ؟ وفيه قولان ( الأول ) أنه تعالى لما بين أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم ، بين وصف جلاله وكبريائه ، فقال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } أي من هيبته وجلالته ( والقول الثاني ) أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله { تكاد السموات يتفطرن } منه ، وهاهنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله ، لقوله بعد هذه الآية { والذين اتخذوا من دونه أولياء } والصحيح هو الأول ، ثم قال : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } .
واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان : عالم الجسمانيات وأعظمها السموات ، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة ، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات ، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات ، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة { عم يتساءلون } لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات ، فقال : { رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا } ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات ، فقال { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات ، فقال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات ، فقال : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } فهذا ترتيب شريف وبيان باهر .
واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يقبل الأثر ، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام ، ومتأثر لا يؤثر ، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام ، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول ، ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة ، وهو المرتبة المتوسطة ، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان : تعلق بعالم الجلال والكبرياء ، وهو تعلق القبول ، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها ، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية ، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات ، وإذا كان كذلك فلها وجهان : وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال ، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني . إذا عرفت هذا فنقول :
قوله تعالى : { يسبحون بحمد ربهم } إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء ، وقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام ، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق ، إذا عرفت هذا فنقول : أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة ، فقد اشتملت على أمرين : ( أحدهما ) التسبيح ، ( وثانيهما ) التحميد ، لأن قوله { يسبحون بحمد ربهم } يفيد هذين الأمرين ، والتسبيح مقدم على التحميد ، لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي ، والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضا لكل الخيرات وكونه منزها في ذاته عما لا ينبغي ، مقدم بالرتبة على كونه فياضا للخيرات والسعادات ، لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد غيره ، وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره ، فلهذا السبب كان التسبيح مقدما على التحميد ، ولهذا قال : { يسبحون بحمد ربهم } .
وأما الجهة الثانية : وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات ، فالإشارة إليها بقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها ، فهذه ملامح من المباحث العالية الإلهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة ، ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير ، فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار ، وقد قال تعالى : { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة } فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم ؟ قلنا الجواب : عنه من وجوه :
( الأول ) أن قوله { لمن في الأرض } لا يفيد العموم ، لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ، ولو كان قوله { لمن في الأرض } صريحا في العموم لما صح ذلك التقسيم ( الثاني ) هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حام المؤمن فقال : { ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } ( الثالث ) يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } إلى أن قال : { إنه كان حليما غفورا } ( الرابع ) يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض ، أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم ، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم ، فإنا نقول اللهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر ، وهذا في الحقيقة استغفار .
واعلم أن قوله { ويستغفرون لمن في الأرض } يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض ، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له البتة أفضل ممن له ذنب وأيضا فقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض ، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم .
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه ( الأول ) أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة ، ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى ( الثاني ) أن الملائكة قالوا في أول الأمر
{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض ، وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجودا في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى ( الثالث ) أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.