مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (5)

ثم قال : { تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { تكاد } بالتاء { يتفطرن } بالياء والنون ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة { تكاد } بالتاء { يتفطرن } بالياء والتاء ، وقرأ نافع والكسائي : { يكاد } بالياء { يتفطرن } أيضا بالتاء ، قال صاحب «الكشاف » : وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة { تتفطرن } بالتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر ، روي في نوادر ابن الإعرابي : الإبل تتشمسن .

المسألة الثانية : في فائدة قوله { من فوقهن } وجوه ( الأول ) روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها .

واعلم أن هذا القول سخيف ، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه ، ويدل على فساده وجوه : ( الأول ) أن قوله { من فوقهن } لا يفهم منه ممن فوقهن ( وثانيها ) هب أنه يحمل على ذلك ، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها ، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها ، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد » ( وثالثها ) لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السموات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلهية والقهر والقدرة ؟ فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة ( والوجه الثاني ) في تأويل الآية ما ذكره صاحب «الكشاف » : وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السموات ، وكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، ودع الجهة التي تحتهن ، ونظيره في المبالغة قوله تعالى ؛ { يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود } فجعل مؤثرا في أجزائه الباطنة ( الوجه الثالث ) في تأويل الآية أن يقال { من فوقهن } أي من فوق الأرضين ، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية { له ما في السموات وما في الأرض } ثم قال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } أي من فوق الأرضين ( والوجه الرابع ) في التأويل أن يقال معنى { من فوقهن } أي من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها ، وتلك الجهة هي فوق ، فقوله { من فوقهن } أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها .

المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت ؟ وفيه قولان ( الأول ) أنه تعالى لما بين أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم ، بين وصف جلاله وكبريائه ، فقال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } أي من هيبته وجلالته ( والقول الثاني ) أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله { تكاد السموات يتفطرن } منه ، وهاهنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله ، لقوله بعد هذه الآية { والذين اتخذوا من دونه أولياء } والصحيح هو الأول ، ثم قال : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } .

واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان : عالم الجسمانيات وأعظمها السموات ، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة ، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات ، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات ، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة { عم يتساءلون } لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات ، فقال : { رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا } ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات ، فقال { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات ، فقال : { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات ، فقال : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } فهذا ترتيب شريف وبيان باهر .

واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يقبل الأثر ، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام ، ومتأثر لا يؤثر ، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام ، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول ، ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة ، وهو المرتبة المتوسطة ، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان : تعلق بعالم الجلال والكبرياء ، وهو تعلق القبول ، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها ، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية ، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات ، وإذا كان كذلك فلها وجهان : وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال ، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني . إذا عرفت هذا فنقول :

قوله تعالى : { يسبحون بحمد ربهم } إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء ، وقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام ، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق ، إذا عرفت هذا فنقول : أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة ، فقد اشتملت على أمرين : ( أحدهما ) التسبيح ، ( وثانيهما ) التحميد ، لأن قوله { يسبحون بحمد ربهم } يفيد هذين الأمرين ، والتسبيح مقدم على التحميد ، لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي ، والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضا لكل الخيرات وكونه منزها في ذاته عما لا ينبغي ، مقدم بالرتبة على كونه فياضا للخيرات والسعادات ، لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد غيره ، وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره ، فلهذا السبب كان التسبيح مقدما على التحميد ، ولهذا قال : { يسبحون بحمد ربهم } .

وأما الجهة الثانية : وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات ، فالإشارة إليها بقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها ، فهذه ملامح من المباحث العالية الإلهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة ، ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير ، فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار ، وقد قال تعالى : { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة } فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم ؟ قلنا الجواب : عنه من وجوه :

( الأول ) أن قوله { لمن في الأرض } لا يفيد العموم ، لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ، ولو كان قوله { لمن في الأرض } صريحا في العموم لما صح ذلك التقسيم ( الثاني ) هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حام المؤمن فقال : { ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } ( الثالث ) يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } إلى أن قال : { إنه كان حليما غفورا } ( الرابع ) يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض ، أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم ، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم ، فإنا نقول اللهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر ، وهذا في الحقيقة استغفار .

واعلم أن قوله { ويستغفرون لمن في الأرض } يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض ، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له البتة أفضل ممن له ذنب وأيضا فقوله { ويستغفرون لمن في الأرض } يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض ، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم .

ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه ( الأول ) أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة ، ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى ( الثاني ) أن الملائكة قالوا في أول الأمر

{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض ، وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجودا في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى ( الثالث ) أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة .