الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (5)

قوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ } : قد مَرَّ في مريم الخلافُ والكلامُ فيه مُشْبَعاً . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ زاد هنا : " وروِيَ عن يونسَ عن أبي عمروٍ قراءةٌ غريبةٌ " تَتَفَطَّرْنَ " بتاءَيْن مع النونِ ، ونظيرُهما حرفٌ نادرٌ رُوي في نوادر ابنِ الأعرابي : " الإِبلُ تَتَشَمَّمْن " . قال الشيخ : " والظاهرُ أنَّ هذا وهمٌ منه ؛ لأنَّ ابن خالويه قال في " شاذِّ القراءاتِ " ما نَصُّه : " تَنْفَطِرْنَ " بالتاء والنون ، يونس عن أبي عمروٍ " قال ابنُ خالَوَيْه : " وهذا حرفٌ نادرٌ لأنَّ العربَ لا تجمعُ بين علامَتَيْ التأنيثِ . لا يقال : النساءُ تَقُمْنَ ، ولكن يَقُمْنَ ، { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } [ البقرة : 233 ] ولا يقال : تُرْضَعْنَ . وقد كان أبو عُمَرَ الزاهدُ رَوَى في نوادرِ ابن الأعرابي : " الإِبلُ تَتشمَّمْن " فأنكَرْنَاه ، فقد قَوَّاه الآن هذا " . قال الشيخ : " فإنْ كانَتْ نُسَخُ الزمخشريِّ متفقةً على قولِه : " بتاءَيْن مع النون " فهو وهمٌ ، وإنْ كان في بعضها " بتاءٍ مع النونِ " كان موافقاً لقولِ ابن خالَوَيْهِ ، وكان " بتاءَيْن " تحريفاً من النَّساخ . وكذلك كَتْبُهُم " تَتَفَطَّرْن " و " تَتَشَمَّمْنَ " بتاءَيْن " انتهى .

قلت : كيف يَسْتقيم أَنْ يكونَ كتْبُهم تَتَشَمَّمْن بتاءَيْن وهماً ؟ وذلك لأنَّ ابنَ خالَوَيْهِ أورَدَه في مَعْرِضِ النُّدْرَةِ والإِنكارِ ، حتى تَقَوَّى عنده بهذه القراءةِ ، وإنما يكون نادراً مُنْكَراً بتاءَيْن فإنه حينئذٍ يكونُ مضارِعاً مُسْنَداً لضمير الإِبلِ ، فكان مِنْ حَقِّه أَنْ يكونَ حرفُ مضارَعَتِه ياءً منقوطةً مِنْ أسفلَ نحو : " النساءُ يَقُمْنَ " فكان يَنْبغي أَنْ يقال : الإِبلُ يَتَشَمَّمْنَ بالياء مِنْ تحتُ ثم بالتاءِ مِنْ فوقُ ، فلمَّا جاء بتاءَيْن كلاهما مِنْ فوقُ ظهرَ ندورُه وإنكارُه . ولو كان على ما قال الشيخُ : إنَّ كَتْبَهم بتاءَيْن وهمٌ ، بل كان ينبغي كَتْبُه بتاءٍ واحدةٍ لَما كان فيه شذوذٌ/ ولا إنكارٌ ؛ لأنه نظيرُ " النسوةُ قد خَرَجْنَ " فإنَّه ماضٍ مسندٌ لضميرِ الإِناثِ ، وكذا لو كُتِب بياءٍ مِنْ تحتُ وتاءٍ مِنْ فوقُ لم يكنْ فيه شذوذٌ ولا إنكارٌ ، وإنما يجيْءُ الشذوذُ والإِنكارُ إذا كان بتاءَيْنِ منقوطتَيْن مِنْ فوقُ ، ثم إنَّه سواءٌ قُرِئَ " تَتَفَطَّرْنَ " بتاءَيْن أو بتاءٍ ونونٍ فإنه نادرٌ كما ذَكَرَ ابنُ خالوَيْه ، وهذه القراءةُ لم يُقْرَأ بها في نظيرتِها في سورةِ مريم .

قوله : " مِنْ فَوْقِهِنَّ " في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه عائدٌ على السماوات أي : يَبْتَدِئُ انفطارُهُنَّ مِنْ هذه الجهةِ ف " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بما قبلَها . الثاني : أنه [ عائد ] على الأرضين لتقدُّم ذِكْرِ الأرضِ قبلَ ذلك . الثالث : أنه يعودُ على فِرَقِ الكفَّارِ والجماعاتِ المُلْحِدين ، قاله الأخفش الصغير ، وأنكره مكي ، وقال : " لا يجوزُ ذلك في الذكور مِنْ بني آدم " . وهذا لا يُلْزِمُ الأخفشَ فإنَّه قال : على الفِرَقِ والجماعات ، فراعى ذلك المعنى .