قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة } ، خير ونعمة .
قوله تعالى : { فمن الله وما أصابك من سيئة } ، بلية أو أمر تكرهه .
قوله تعالى : { فمن نفسك } ، أي : بذنوبك ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره ، نظيره قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى :30 ] وتعلق أهل القدر بظاهر هذه الآية ، فقالوا : نفى الله تعالى السيئة عن نفسه ونسبها إلى العبد فقال : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } ، ولا متعلق لهم فيه ، لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ، ولا سيئاته من الطاعات والمعاصي ، بل المراد منهم ما يصيبهم من النعم والمحن ، وذلك ليس من فعلهم ، بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم ، فقال :{ ما أصابك } ولا يقال في الطاعة والمعصية ( أصابني ) ، إنما يقال : " أصبتها " ، ويقال في المحن : " أصابني " ، بدليل أنه لم يذكر عليه ثواباً ولا عقاباً ، فهو كقوله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف :131 ] ، فلما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه ، ووعد عليها الثواب ، والعقاب ، فقال{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [ الأنعام :16 ] . وقيل : معنى الآية : ما أصابك من حسنة من النصر ، والظفر يوم بدر فمن الله ، أي : من فضل الله ، وما أصابك من سيئة من القتل ، والهزيمة ، يوم أحد فمن نفسك ، أي : يعني : فبذنوب أصحابك ، وهو مخالفتهم لك ، فإن قيل : كيف وجه الجمع بين قوله { قل كل من عند الله } وبين قوله { فمن نفسك } قيل : قوله { قل كل من عند الله } أي : الخصب ، والجدب ، والنصر ، والهزيمة ، كلها من عند الله . وقوله : { فمن نفسك } أي : وما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك ، عقوبةً لك ، كما قال الله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى :30 ] يدل عليه ما روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قرأ { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وأنا كتبتها عليك . وقال بعضهم : هذه الآية متصلة بما قبلها ، والقول فيه مضمر تقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ، يقولون : { ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك }{ قل كل من عند الله } قوله تعالى : { وأرسلناك } ، يا محمد .
قوله تعالى : { للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً } على إرسالك ، وصدقك ، وقيل : كفى بالله شهيداً على أن الحسنة والسيئة كلها من الله تعالى .
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . )
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى :
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا ، وشرع طريقا ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس ، ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية :
( وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة ( وكفى بالله شهيدًا ) . .
وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علَّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد ، فقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . ووُجِّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله ، ولأنّ هذا الجوابَ لإبطال ما نَسبه الضالّون إليه من كونه مصدرَ السيّئات التي تصيبهم .
وأعلَمْ أنّ للحوادث كلّها مؤثّراً . وسبباً مقارناً ، وأدلّة تنبىء عنها وعن عواقبها ، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها ، سواء كانت غير اختيارية ، أم اختيارية كأفعال العباد . فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدَرِه وخلق مؤثّراتها وأسبابَها ، فهذا الجُزء لله وحده لقوله : { قلْ كلّ من عند الله } .
والله أقام بالألطاف الموجودات ، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات ، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة ، لولاها لما بقيت الأنواع ، وساق إليها أصول الملاءمة ، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب ، فالله لطيف بعباده . فهذا الجزءُ لله وحده لقوله : { قُل كلّ من عند الله } .
والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية ، والعقلية ، والعاديةِ ، والشرعية ، وعَلَّم طرائقَ الوصول إليها ، وطرائقَ الحيدة عنها ، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يُمانعها ، وبعث الرسل وشَرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها ، وعواقب ذلك الظاهرةَ والخفيّةَ ، في الدنيا والآخرة ، فأكمل المنّة ، وأقام الحُجّة ، وقطع المعذرة ، فهدَى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف ، ونمَّاها بالتفكيرات والإلهامات ، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم ، فهذا الجزء أيضاً لله وحده . وأمّا الأسباب المقارنةُ للحوادث الحسنةِ والسيّئةِ والجانيةُ لِجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع ، والجهلِ بتلك الوسائل ، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد ، وباختياره الصالحَ لاجتناءِ الخير ، ومقداراً ضدّ ذلك : من غلبة الجهل ، أو غلبة الهوى ، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر ، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها ، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظّاً فيه ، ملَّكَهُ إيّاه ، فإذا جاءت الحسنةُ أحداً فإنّ مجيئها إيّاه بِخلْق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه ، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة ، أي الشيءِ الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى ، فكانت المنّة فيها لله وحده ، إذ لولا لطفه وإرشاده وهديه ، لكان الإنسان في حيَرة ، فصحّ أنّ الحسنة من الله ، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه .
أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى ، ولكن إصابة معظمها الإنسانَ يأتي من جهله ، أو تفريطه ، أو سوء نظره في العواقب ، أو تغليب هواه على رشده ، وهنالك سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسْفٍ وأوبئة ، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات ، على أنّ بعضاً منه كان جزاء على سوء فعل ، فلا جرَم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مبَاشرة أو بواسطة ، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه ، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ . وقد فسَّر هذا المعنى ما ورد في « الصحيح » ، ففي حديث الترمذي " لا يصيب عبداً نكبةٌ فما فوقها أو ما دونها إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر " . وشملت الحسنة والسيِّئة ما كان من الأعيان ، كالمطر والصواعق ، والثمرة والجراد ، وما كان من الأعراض كالصحّة ، وهبوب الصّبا ، والربْح في التجارة . وأضدادها كالمرض ، والسَّموم المهلكة ، والخسارة . وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية ، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره ، والمعاصي الضارّة به وبالناس ، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضِلّ على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إليّ ربي } [ سبأ : 50 ] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه .
ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّة الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله : { فما لهؤلاء القوم لا يكادُون يفقهون حديثاً } ، فقوله : { لا يكادون } يجوز أن يكون جارياً على نظائره من اعتبار القلب ، أي يكادون لا يفقهون ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] فيكون فيه استبقاءٌ عليهم في المذمّة . ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب ، أي لا يقارِبون فهم الحديث الذي لا يعقله إلاّ الفطناء ، فيكون أشدّ في المذمّة .
والفقه فهم ما يَحتاج إلى إعمال فكر . قال الراغب : « هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، وهو أخص من العلم » .
وعرفه غيره بأنّه « إدراك الأشياء الخفيّة » .
والخطاب في قوله : { ما أصابك } خطاب للرسول ، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر ، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك .
وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله : { قل كلّ من عند الله } ، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله : { وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب « حَزّ الغلاصم » : إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية ، وليستا كذلك .
وأنا أقول : إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلاّ قَوْلاً بموجَب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّر على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة كما بيَّنْته آنفاً يجعل الآية صالحة للاستدلال ، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم .
وجيء في حكاية قولهم : { يقولوا هذه من عند الله } { يقولوا هذه من عندك } بكلمة ( عنِد ) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبيء عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يُفيد جزمهم بذلك الانتساب .
ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال : { قل كلّ من عند الله } مشاكلة لقولهم ، وإعراباً عن التقدير الأزلي عند الله .
وأمّا قوله : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } فلم يؤت فيه بكلمة ( عند ) ، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيِّئة من نفس المخاطب ، ابتداءُ المتسبّب لِسبب الفعل ، وليسَ ابتداءَ المؤثِّر في الأثر .
وقوله : { وأرسلناك للناس رسولاً } عطف على قوله : { وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } للردّ على قولهم : السيئة من عند محمد ، أي أنك بُعِثْتَ مُبَلِّغا شريعة وهاديا ، ولست مؤثراً في الحوادث ولا تدل مقارنة الحوادث المؤلمة على عدم صدق الرسالة . فمعنى { أرسلناك } بعثناك كقوله { وأرسلنا الرياح } [ الحجر : 22 ] ونحوه . و { للناس } متعلق ب { أرسلناك } . وقوله { رسولا } حال من { أرسلناك } ، والمراد بالرسول هنا معناه الشرعي المعروف عند أهل الأديان : وهو النبي المبلّغ عن الله تعالى ، فهو لفظ لقيي دالّ على هذا المعنى ، وليس المراد به اسم المفعول بالمعنى اللغوي ولهذا حسن مجيئهُ حالاً مقيَّدة ل« أرسلناك » ، لاختلاف المعنيين ، أي بعثناك مبلّغاً لا مُؤَثِّراً في الحوادث ، ولا أمارةً على وقوع الحوادث السيّئة . وبهذا يزول إشكال مجيء هذه الحال غير مفِيدة إلاّ التأكيد ، حتّى احتاجوا إلى جَعل المجرور متعلّقاً ب { رسولاً } ، وأنّه قدّم عليه دلالة على الحصر باعتبار العموم المستفاد من التعريف ، كما في « الكشّاف » ، أي لجميع الناس لا لبعضهم ، وهو تكلّف لا داعي إليه ، وليس المقام هذا الحصر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ما أصابك من حسنة}: الفتح والغنيمة يوم بدر، {فمن الله} كان، {وما أصابك من سيئة}: البلاء من العدو، والشدة من العيش يوم أحد، {فمن نفسك}: فبذنبك، يعني ترك المركز، وفي مصحف عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب:"فبذنبك، وأنا كتبتها عليك"، {وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا}: فلا شاهد أفضل من الله بأنك رسوله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: ما يصيبك يا محمد من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك يتفضل به عليك إحسانا منه إليك.
{وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: وما أصابك من شدّة ومشقة وأذى ومكروه، "فمن نفسك": بذنب استوجبتها به اكتسبته نفسك... عقوبة يا ابن آدم بذنبك. {وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً}: إنما جعلناك يا محمد رسولاً بيننا وبين الخلق تبلغهم ما أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم، وإن ردوا فعليها.
{وكَفَى بالله} عليك وعليهم {شَهِيدا} يقول: حسبك الله تعالى ذكره شاهدا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه، وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدك، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 78]
في الجمع بين قوله تعالى: {قل كل من عند الله}، وبين قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
أخبر تعالى أن ما أصابنا من حسنة فمن عنده، وهذا هو الحق؛ لأنه لا يجب لنا عليه تعالى شيء. فالحسنات الواقعة منا فضل مجرد منه لا شيء لنا فيه، وإحسان منه إلينا لم نسحقه قط عليه. وأخبرنا عز وجل أن ما أصابنا من سيئة فمن أنفسنا، بعد أن قال: إن الكل من عند الله، فصح أننا مستحقون النكال لظهور السيئة منا، وأننا عاصون بذلك كما حكم علينا تعالى، وحكمه عز وجل الحق والعدل ولا مزيد. وبالله التوفيق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فان قيل: كيف عاب قول المنافقين في الآية الاولى، لما قالوا إذا أصابتهم حسنة انها من عند الله، وإذا إصابتهم سيئة، قالوا هذه من عندك. وقد أثبت مثله في هذه الآية؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما: أن ذلك على وجه الحكاية. والتقدير يقولون: ما أصابك من حسنة، فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. ويكون (يقولون) محذوفا، لدلالة سياق الكلام عليه.
الثاني: أن معناهما مختلف، فالأول عند أكثر أهل العلم أن المراد به النعمة، والمصيبة من الله تعالى. وفي الآية الثانية المراد به الطاعة، والمعصية. فلما اختلف معناهما، لم يتناقضا...
(وأرسلناك للناس رسولا) معناه من الحسنة أرسالك يامحمد (صلى الله عليه وآله)، ومن السيئة خلافك يامحمد (صلى الله عليه وآله) وكفى بالله شهيدا لك وعليك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم قال {مَا أَصَابَكَ} يا إنسان خطاباً عاماً {مِنْ حَسَنَةٍ} أي من نعمة وإحسان {فَمِنَ الله} تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً وامتحاناً {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} أي من بلية ومصيبة {فمن نفسك}، لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِير} [الشورى: 30]. {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي رسولاً للناس جميعاً لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم، كقوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28]، {قُلْ ياأَيُّهَا الناس إِنّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، {وكفى بالله شَهِيداً} على ذلك، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أجابهم بما هو الحق إيجاداً علمهم ما هو الأدب لماحظة السبب فقال مستأنفاً: {ما أصابك من حسنة} أي نعمة دنيوية أو أخروية {فمن الله} أي إيجاداً وفضلاً، والإيمان أحسن الحسنات، قال الإمام: إنهم يقولون: إنهم اتفقوا على أن قوله {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت: 33] المراد به كلمة الشهادة {وما أصابك} وأنت خير الخلق {من سيئة} أي بلاء {فمن نفسك} أي بسببها فغيرك بطريق الأولى. ولما اقتضى قولهم إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم إلا أن فعل كل خارق، وأخبر سبحانه وتعالى بأنه مستو مع الخلق في القدرة قال سبحانه وتعالى مخبراً بما اختصه به عنهم: {وأرسلناك} أي مختصين لك بعظمتنا {للناس} أي كافة {رسولاً} أي تفعل ما على الرسل من البلاغ ونحوه، وقد اجتهدت في البلاغ والنصيحة، ولم نجعلك إلهاً تأتي بما يطلب منك من خير وشر، فإن أنكروا رسالتك فالله يشهد بنصب المعجزات والآيات البينات {وكفى بالله} المحيط علماً وقدرة {شهيداً} لك بالرسالة والبلاغ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن بين حقيقة الأمر في السيئات والحسنات بالنسبة إلى موضوعها وسنن الاجتماع فيها وأنها كلها تضاف بهذا الاعتبار إلى الله عز وجل، أراد أن يبين حقيقة الأمر فيها من وجه آخر فقال: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. قيل إن الخطاب هنا لكل من يتوجه إليه من المكلفين، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل من أرسل إليهم، والمعنى مهما يصبك من حسنة فهي من محض فضل الله الذي سخر لك المنافع التي تحسن عندك لا باستحقاق سبق لك عنده وإلا فبماذا استحققت أن يسخر لك الهواء النقي الذي يطهر دمك ويحفظ حياتك، والماء العذب الذي يمد حياتك وحياة كل الأحياء التي تنتفع بها، وهذه الأزواج الكثيرة من نبات الأرض وحيواناتها، وغير ذلك من مواد الغذاء، وأسباب الراحة والهناء، ومهما يصبك من سيئة فمن نفسك فإنك أوتيت قدرة على العمل واختيارا في تقدير الباعث الفطري عليه من درء المضار وجلب المنافع فصرت تعمل باجتهادك في ترجيح بعض الأسباب والمقاصد على بعض فتخطئ فتقع فيما يسوءك، فلا أنت تسير على سنن الفطرة وتتحرى جادتها، ولا أنت تحيط علما بالسنن والأسباب وضبط الهوى والإرادة في اختيار الحسن منها، وإنما ترجح بعضها على بعض في حين دون حين بالهوى أو قبل المعرفة التامة بالنافع والضار منها فتقع فيما يسوءك ولولا ذلك لما علمت السيئات.
وتفصيل القول أن هنا حقيقتين متفقتين:
إحداهما: إن كل شيء من عند الله بمعنى أنه خالق الأشياء التي هي مواد المنافع والمضار، وأنه واضع النظام والسنن لأسباب الوصول إلى هذه الأشياء بسعي الإنسان، وكل شيء حسن بهذا الاعتبار، لأنه مظهر الإبداع والنظام.
والثانية: إن الإنسان لا يقع في شيء يسوءه إلا بتقصير منه في استبانة الأسباب وتعرف السنن، فالسوء معنى يعرض للأشياء بتصرف الإنسان وباعتبار أنها تسوءه وليس ذاتيا لها ولذلك يسند إلى الإنسان.
مثال ذلك: المرض فهو من الأمور التي تسوء الإنسان وهو إنما يصيبه بتقصيره في السير على سنة الفطرة في الغذاء والعمل فيجيء من تخمة قادته إليها الشهوة، أو من إفراط في التعب أو في الراحة، أو من عدم اتقاء أسباب الضرر كتعريض نفسه للبرد القارس أو الحر الشديد، وقس على ذلك غيره من أسباب الأمراض التي ترجع كلها إلى الجهل بالأسباب وسوء الاختيار في الترجيح. والأمراض الموروثة من جناية الإنسان على الإنسان فهي من نفسه أيضا لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هي من محض خلق الله دون اختيار الإنسان لنفسه، فوالداه يجنيان عليه قبل وجوده بتعريض أنفسهما للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة كما يجنيان عليه بعده بتعريضه هو للمرض في صغره بعدم وقايته من أسبابه، في الوقت الذي يكون اختيارهما له قائما مقام اختياره لنفسه.
وأضرب لهم مثلا خاصا غزوة أحد أصابت المسلمين فيها سيئة كان سببها تقصيرهم في الوقوف عند أسباب الفوز والظفر بعصيان قائد عسكرهم ورسولهم (صلى الله عليه وسلم) وترك الرماة منهم موقعهم الذي أقامهم فيه للنضال وكان ذلك لخطأ في الاجتهاد سببه الطمع في الغنيمة كما تقدم في تفسير سورة آل عمران من الجزء الرابع.
فإن قيل: إن جميع الأشياء حسنها وسيئها تسند إلى الله عز وجل ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لموادها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها، ويسند إلى الإنسان منها كل ما له فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات أو السيئات، وقد مضى بهذا عرف الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة بمثل قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} [الأنعام:16] فلماذا جعل هنا إصابة الحسنة من فضل الله تعالى مطلقا وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا؟.
فالجواب عن هذا: إن ما ذكر في السؤال حق وما في الآية حق ولكل مقام مقال، والمقام الذي سيقت الآية له هو بيان أمرين؛
أحدهما: نفي الشؤم والتطير وإبطالها ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا يصيبهم بشؤم أحد يكون فيهم، وكانوا يتشاءمون ويتطيرون في الجاهلية ولا يزال التطير والتشاؤم فاشيا في الجاهلين من جميع الشعوب وهو من الخرافات التي يردها العقل وقد أبطلها دين الفطرة. قال تعالى في آل فرعون {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الأنفال:130] فقد جعل التطير من الجهل وفقد العلم بالحقائق.
ثانيهما: أنه ينبغي لمن أصابته سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه ولا يكتفي بعدم إسنادها إلى شؤم غيره من ليس له فيها عمل ولا كسب لأن السيئة تصيب الإنسان بما تقدم شرحه آنفا من تقصيره وخروجه بجهله أو هواه عن سنة الله في التماس المنفعة من أبوابها، واتقاء المضار باتقاء أسبابها، لأن الأصل في نظام الفطرة البشرية هو ما يجده الإنسان في نفسه من ترجيح الخير لها على الشر، والنفع على الضر، وكون كل قوة من قواه نافعة له إذا أحسن استعمالها، وليس في أصل الفطرة سيئة قط، وإنما الإنسان يقع في الضرر غالبا بسوء الاستعمال وطلب ما لا تقتضيه الفطرة لولا جنايته عليها باجتهاده، كالإفراط في اللذات والتعب تنفر منه الفطرة فيحتال الإنسان عليها ويحملها ما لا تحمله بطبعها لولا ظلمه لها كاستعمال الأدوية لإثارة شهوة الطعام والوقاع وعدم وقوفه فيهما عند حد الداعية الطبيعة كأن لا يأكل إلا إذا جاع من نفسه، ولا يملأ بطنه من الطعام بما يحمله على ذلك من الأدوية المقوية والتوابل المحرضة، فمصائب الإنسان من ظلمه وكسبه (راجع ج4).
لب هذه الحقيقة الثانية التي علمنا الله إياها وربانا بها هو أن سننه تعالى في فطرة الإنسان، كسننه في فطرة سائر الحيوان والنبات، {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك:3] كلها مصادر للحسنات، ليس فيها شيء سيء بطبعه، ولكن الإنسان فضل على غيره بما أوتي من الاستعداد للعلم، ومن الإرادة والاختيار في العمل، فإذا أحكم العلم وأحسن الاختيار مهتديا بسنن الفطرة وأحكام الشريعة وهي كلها من عند الله ومن محض فضله ورحمته كان مغمورا في الحسنات والخيرات، وإذا قصر في العلم وأساء الاختيار في استعمال قواه وأعضائه في غير ما يقتضيه نظام الفطرة وحاجة الطبيعة وقع في الأمور التي تسوؤه، فيجب عليه أن يرجع على نفسه بالمحاسبة والمعاتبة كلما أصابته سيئة، ليعتبر بها ويزداد علما وكمالا، فهذه الآية أصل من أصول علم الاجتماع وعلم النفس فيها شفاء للناس من أوهام الوثنية، وتثبيت في مقام الإنسانية.
ثم قال تعالى: {وأرسلناك للناس رسولا} وما على الرسول إلا البلاغ المبين وأما الحسنات والسيئات فهي من الله عز وجل خلقا لموادها وأسبابها وتقديرا لتلك الأسباب بجعلها على قدر المسببات، ومنها أن للإنسان عملا في هذه الأسباب فإن أحسن وأصاب كانت له الحسنة بفضل الله في ذلك وإن أخطأ وأساء كانت له السيئة بخروجه عن تلك السنن وتقصيره في تلك الأسباب، وليس للرسول دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات لأنه أرسل للتبليغ والهداية لا للتصرف في نظام الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها {ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الفتح:23]، و {لن تجد لسنة الله تحويلا} [فاطر:43] فزعم أولئك الجاهلين أن السيئة تصيبهم من عنده أو بسببه، وما تخيلوا من شؤمه، لا حجة عليه من العقل، وهو مخالف لما بين من وظيفة الرسول في النقل، على أن هدايته جامعة لأسباب النعم فهي من يمنه لا من خلقه.
{وكفى بالله شهيدا} على صحة رسالتك للناس كافة بتأييدك وآياته، وتصديقك فيما أنذرت به المعرضين، وبشرت به المؤمنين، أو شهيدا بأنك لم ترسل إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، لا مسيطرا عليهم، ولا جبارا لهم، ولا مغيرا لنظام الاجتماع فيهم، وقيل إن المراد بالشهادة هنا الشهادة على أولئك الذين قالوا تلك الأقوال المنكرة.
تقدم القول: بأن هذه الآيات كلها من قوله {ألم تر} إلى هنا نزلت في اليهود، والقول بأن الذي نزل فيهم هو قوله {وإن تصبهم حسنة} وما بعده إلى هنا. كان يقول هذا يهود المدينة بعد أن هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إليها. وقيل إنها نزلت في المنافقين وهو يؤيد كون السياق فيهم، وفي مرضى القلوب الذين على مقربة منهم، لا في ضعفاء الإيمان خاصة كما اختار الأستاذ الإمام، وله رحمه الله تعالى مقال في تفسير هاتين الآيتين وكان قد سئل عنهما فأجاب ونشرنا جوابه في المجلد الثالث من المنار (ص157)، ويحسن أن نضعه ههنا فهو موضعه وهو:
" كان بعض القوم بطرا جاهلا إذا أصابه خير ونعمة يقول إن الله تعالى قد أكرمه بما أعطاه من ذلك وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه به لعلو منزلته وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات والشرور. فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه مصدرها الأول ومنبعها الحقيقي كذلك وأن شؤمه هو الذي رماهم بها وهذا هو معنى {من عند الله} أو "من عندك" أي من لدنه ومن خزائن عطائه ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس. فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله {قل كل من عند الله} أي أن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم إنما هو الله وحده وليس ليمن ولا لشؤم مدخل في ذلك فهو بيان للفاعل الأول الذي يرد إليه الفعل فيما لا تتناوله قدرة البشر ولا يقع عليه كسبهم وهو الذي كان يعنيه أولئك المشاقون عندما يقولون الحسنة من الله والسيئة من محمد في أنه لا دخل لاختيارهم في الأولى ولا في الثانية وأن الأولى من عناية الله بهم والثانية من شؤم محمد، عليهم فجاءت الآية ترميهم بالجهل فيما زعموا، ولو عقلوا لعلموا أن ليس لأحد فيما وراء الأسباب المعروفة فعل، الخير والشر في ذلك سواء.
" هذا فيما يتعلق بمن بيده الأمر الأعلى في الخير والشر والنعم والنقم. أما ما يتعلق بسنة الله في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك فالأمر على خلاف ما يزعمون كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في توفير أسباب سعادتنا والبعد عن مساقط الشقاء، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب فيما وهبت لأجله وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير، وذلك إنما يكون بتصحيح الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه وفهم شرائع الله حق الفهم والتزام ما حدده فيها، فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة، ونبعد عن الشقاء والتعاسة، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى فما أصابك من حسنة فمن الله لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها الحسنات بل واستعمالك لتلك القوى إنما هو من الله لأنك لم تأت بشيء سوى استعمال ما وهب الله فاتصال الحسنة بالله ظاهر، ولا يفصلها عنه فاصل ولا ظاهر ولا باطن.
وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا، وفرطنا في النظر في شؤوننا، وأهملنا العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه، وغفلنا عن فهمه، فاتبعنا الهوى في أفعالنا، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا، كان ما أصابنا من ذلك صادرا عن سوء اختيارنا، وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاء على ما فرطنا، ولا يجوز لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه. ونسبة الشر والسيئات إلينا في هذه الحالة ظاهرة الصحة فأما المواهب الإلهية بطبيعتها فهي متصلة بالخير والحسنات وإنما يبطل أثرها إهمالها، أو سوء استعمالها، وعن كلا الأمرين يساق الشر إلى أهله وهما من كسب المهملين وسيء الاستعمال فحق أن ينسب إليهم ما أصيبوا به وهم الكاسبون لسببه فقد حالوا بكسبهم بين القوى التي غرزها الله فيهم لتؤدي إلى الخير والسعادة وبين ما حقها أن تؤدي إليه من ذلك وبعدوا بها عن حكمة الله فيها وصاروا بها إلى ضد ما خلقت لأجله، فكل ما يحدث بسبب هذا الكسب الجديد فأجدر به أن لا ينسب إلا إلى كاسبه.
" وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظر إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال أن سواه يقدر على ذلك ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلاما لأن نسبة الخير إلى الله ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل فإن الذي يأتي بالخير ويقدر على سوقه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه فالتفريق ضرب من الخبل في العقل.
" وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا سعداء ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي من الله عليه بها فعليه أن يحمد الله ويشكره على ما آتاه، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا نفسه فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب وليس بسائغ له أن ينسب شيئا من ذلك إلى النبي ولا إلى غيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ولم يقهره على إتيان ما كان سببا في الانتقام منه.
" فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك (يا محمد) على ما ينالون من خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله وفي التزامها سعادتهم. ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته لأن الكل من عنده وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ويسلب نعمته عمن أساءه.
" وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وإن عصيانه من مجالب النقم، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله.
" ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب فإنك لو كنت فقيرا وأعطاك والدك مثلا رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد في الإنفاق وصرت بذلك غنيا فإنه يحق لك أن تقول إن غناك إنما كان من ذلك الذي أعطاك رأس المال وأعدّك به للغنى. أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك منك فاسترد ما بقي منه وحرمك نعمة التمتع به فلا ريب أن يقال أن سبب ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد وهو والدك غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يحب لأن تحويل الوسائل عن الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه.
" وهناك للآية معنى أدق، ويشعر به ذو وجدان أرق، مما يجده الغافلون من سائر الخلق، وهو أن ما وجدت من فرح ومسرة وما تمتعت به من لذة حسية أو عقلية فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدا بما وهبك. أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة وأخذته كما هو وعلى ما هو عليه لكانت المصائب لديك منزلة التوابل الحريفة يضيفها طاهيك على ما يهيئ لك من طعام لتزيد حسن طعم وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة، واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده والتعرض لنعمه، والتحول عن مصاب نقمة، فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة التأديب، ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته، ولا تلتزم طريقته، فكما يسر طالب الأدب أن يتحمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه، يسره كذلك أن يرتقي فوق المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعا بما حصل، بالغا ما أمل، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي "اهـ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله.. وهذا ما تقرره الآية الأولى..
(ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك..)
فإنها تقرر حقيقة أخرى. ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى.. إنها في واد آخر.. والنظرة فيها من زاوية أخرى:
إن الله -سبحانه- قد سن منهجا، وشرع طريقا، ودل على الخير، وحذر من الشر.. فحين يتبع الإنسان هذا المنهج، ويسير في هذا الطريق، ويحاول الخير، ويحذر الشر.. فإن الله يعينه على الهدى كما قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).. ويظفر الإنسان بالحسنة.. ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا.. إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى.. وتكون من عند الله. لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر.. وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه، ولا يسلك طريقه الذي شرعه، ولا يحاول الخير الذي دله عليه، ولا يحذر الشر الذي حذره منه.. حينئذ تصيبه السيئة. السيئة الحقيقية. سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا.. ويكون هذا من عند نفسه. لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه..
وهذا معنى غير المعنى الأول، ومجال غير المجال الاول.. كما هو واضح فيما نحسب..
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا. وهي أن تحقق الحسنة، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره. لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ. المحدث لكل ما يحدث. الخالق لكل ما يكون.. أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث، وهذا الذي يكون.
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله وموقف الناس منه، وموقفه من الناس، ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية:
(وأرسلناك للناس رسولا. وكفى بالله شهيدا. من يطع الرسول فقد أطاع الله. ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا)..
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة. لا إحداث الخير ولا إحداث السوء. فهذا من أمر الله -كما سلف- والله شهيد على أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم لأداء هذه الوظيفة (وكفى بالله شهيدًا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علَّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد، فقال: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك}. ووُجِّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله، ولأنّ هذا الجوابَ لإبطال ما نَسبه الضالّون إليه من كونه مصدرَ السيّئات التي تصيبهم. وأعلَمْ أنّ للحوادث كلّها مؤثّراً. وسبباً مقارناً، وأدلّة تنبئ عنها وعن عواقبها، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها، سواء كانت غير اختيارية، أم اختيارية كأفعال العباد. فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدَرِه وخلق مؤثّراتها وأسبابَها، فهذا الجُزء لله وحده لقوله: {قلْ كلّ من عند الله}. والله أقام بالألطاف الموجودات، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة، لولاها لما بقيت الأنواع، وساق إليها أصول الملاءمة، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب، فالله لطيف بعباده. فهذا الجزءُ لله وحده لقوله: {قُل كلّ من عند الله}. والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية، والعقلية، والعاديةِ، والشرعية، وعَلَّم طرائقَ الوصول إليها، وطرائقَ الحيدة عنها، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يُمانعها، وبعث الرسل وشَرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها، وعواقب ذلك الظاهرةَ والخفيّةَ، في الدنيا والآخرة، فأكمل المنّة، وأقام الحُجّة، وقطع المعذرة، فهدَى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف، ونمَّاها بالتفكيرات والإلهامات، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم، فهذا الجزء أيضاً لله وحده. وأمّا الأسباب المقارنةُ للحوادث الحسنةِ والسيّئةِ والجانيةُ لِجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع، والجهلِ بتلك الوسائل، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد، وباختياره الصالحَ لاجتناءِ الخير، ومقداراً ضدّ ذلك: من غلبة الجهل، أو غلبة الهوى، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظّاً فيه، ملَّكَهُ إيّاه، فإذا جاءت الحسنةُ أحداً فإنّ مجيئها إيّاه بِخلْق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة، أي الشيءِ الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى، فكانت المنّة فيها لله وحده، إذ لولا لطفه وإرشاده وهديه، لكان الإنسان في حيَرة، فصحّ أنّ الحسنة من الله، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه. أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى، ولكن إصابة معظمها الإنسانَ يأتي من جهله، أو تفريطه، أو سوء نظره في العواقب، أو تغليب هواه على رشده، وهنالك سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسْفٍ وأوبئة، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات، على أنّ بعضاً منه كان جزاء على سوء فعل، فلا جرَم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مبَاشرة أو بواسطة، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ. وقد فسَّر هذا المعنى ما ورد في « الصحيح»، ففي حديث الترمذي "لا يصيب عبداً نكبةٌ فما فوقها أو ما دونها إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر". وشملت الحسنة والسيِّئة ما كان من الأعيان، كالمطر والصواعق، والثمرة والجراد، وما كان من الأعراض كالصحّة، وهبوب الصّبا، والربْح في التجارة. وأضدادها كالمرض، والسَّموم المهلكة، والخسارة. وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره، والمعاصي الضارّة به وبالناس، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضِلّ على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إليّ ربي} [سبأ: 50] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه. ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّة الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله: {فما لهؤلاء القوم لا يكادُون يفقهون حديثاً}، فقوله: {لا يكادون} يجوز أن يكون جارياً على نظائره من اعتبار القلب، أي يكادون لا يفقهون، كما تقدّم عند قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] فيكون فيه استبقاءٌ عليهم في المذمّة. ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب، أي لا يقارِبون فهم الحديث الذي لا يعقله إلاّ الفطناء، فيكون أشدّ في المذمّة. والفقه فهم ما يَحتاج إلى إعمال فكر. قال الراغب: « هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد، وهو أخص من العلم». وعرفه غيره بأنّه « إدراك الأشياء الخفيّة». والخطاب في قوله: {ما أصابك} خطاب للرسول، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك. وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله: {قل كلّ من عند الله}، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله: {وما أصابك من سيّئة فمن نفسك}. وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب « حَزّ الغلاصم»: إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية، وليستا كذلك. وأنا أقول: إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلاّ قَوْلاً بموجَب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّر على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة كما بيَّنْته آنفاً يجعل الآية صالحة للاستدلال، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم. وجيء في حكاية قولهم: {يقولوا هذه من عند الله} {يقولوا هذه من عندك} بكلمة (عنِد) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبيء عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يُفيد جزمهم بذلك الانتساب. ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال: {قل كلّ من عند الله} مشاكلة لقولهم، وإعراباً عن التقدير الأزلي عند الله. وأمّا قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك} فلم يؤت فيه بكلمة (عند)، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيِّئة من نفس المخاطب، ابتداءُ المتسبّب لِسبب الفعل، وليسَ ابتداءَ المؤثِّر في الأثر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآيات تتميم للمعاني التي اشتملت عليها الآيات السابقة، فإن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان كانوا يُحَمِّلون النبي صلى الله عليه وسلم تبعة الهزيمة إن كانت. وإن كان ما يحسن في نظرهم قالوا: هذا بفضل الله، ونسوا أن كل شيء بتقدير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، فقد قدر النصر والفوز، كما قدر الضرر والأذى، وكل من عند الله سبحانه وتعالى. وقد حسب أولئك المنافقون والضعفاء أن البعد عن القتال ينجيهم من الموت، فبين الله سبحانه أنه لا نجاة من الموت حيثما كان الشخص فالموت مدركه ولاحقه.
وفي هذه الآيات يبين سبحانه أن ما يصيبك من أمر يحسن عندك، فإنه بفضل الله تعالى، إذ وفقك إلى سببه وجعل السبب منتهيا بالنتيجة وما أصابك من أمر يسوؤك فبسببك وعمل منك، وأن الرسول لا يحمل أوزاركم، وأن طاعته واجبة في المنشط والمكر، وأن الذين يظهرون الطاعة بألسنتهم أمامه ويبيتون العصيان من ورائه، الله بهم عليم، ولذا قال سبحانه: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}
{ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} في هذا النص الكريم تخريجان: أحدهما_ أن هذا من كلام الله تعالى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو من بعد ذلك خطاب لكل مكلف مطالب بالعمل بالشرع الشريف.
والمراد بالحسنة ما يكون فيه ما يسر وما يحسن في نظر الإنسان، والسيئة ما يسوء في نظر الإنسان. والمعنى على هذا التخريج: ما أصابكم من أمور حسنة فبتوفيق الله تعالى لكم، وجعل نتائج مترتبة على أعمالكم التي اتخذتم فيها الأسباب، ولم تتقاصروا عن الاتجاه فيها إلى أسباب الظفر. وما يصيبكم مما يسوؤكم وينزل بكم من غم، فلتجنبكم الأسباب الموصلة إلى الغاية، ومخالفتكم أوامر الله ورؤسائكم، كما كان الشأن في أحد، فما كان الأمر الذي ساء إلا من المحاربين الذين أُمروا فخالفوا، وما كان النصر في بدر إلا من الله، وإطاعتهم الأوامر.
والتوفيق بين النص الكريم، وقوله من قبل: {قل كل من عند الله (78)} (النساء)،هو أن النص الأول كان موضعه الكلام في تقدير الله، فهم إن انتصر المؤمنون ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم أي فضل، بل يجردونه من الفضل، ويقولون هو من عند الله وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة، وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي إيذاءً وتمردا، فالله قال لهم: كل ذلك بتقدير الله وإرادته. أما هذا النص: {ما أصابك}، فموضوعه اتخاذ الأسباب، ومعناه أن من أخذ الأسباب وتوكل على الله، فالله تعالى يعطيه النتائج، ومن لا يتخذ الأسباب أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، أو لا يتوكل على الله تعالى ولا يفوض إليه، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه، فالأول لبيان القَدَر والثاني لبيان العمل.
وهذا هو التخريج الأول، والتخريج الثاني أن يكون: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}، من حكاية قول المنافقين والضعفاء في إيمانهم، لأن آخر الآية السابقة: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)} (النساء)، ثم ذكر سبحانه حديثهم الذي لم يفقهوه، وهو قولهم: {ما أصابك من حسنة فمن الله} إلخ، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون له: ليس لك من فضل في النصر الذي تناله، فإن ما أصابك من ظفر فمن الله، وما أصابك من هزيمة فمن نفسك! وقد ذكر هذا التخريج القرطبي، وقال:"والمعنى: فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، حتى يقولوا: ما أصابك الله من حسنة فمن الله!".
ويكون ذلك الكلام على هذا التخريج ترديدا لقولهم: {ما أصابك من حسنة فمن الله}، ويكون في أول الحديث عن أنفسهم، وفي الحديث الثاني عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الأول التطير والتشاؤم، وفي الثاني تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من كل فضل.
وهم في الأمرين خارجون عن الطاعة متمردون، وقد رد الله تعالى كلامهم بقوله سبحانه:
{وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} وإنا أيها النبي قد شرفناك برسالتنا، فأرسلناك رسولا فقط، لا تتكفل بالأرزاق، ولا تهب النصر، ولا تمسك مقاليد الكون، ولست تملك من أمر نفسك شيئا، إنما أنت مكلف بالتبليغ فقط، فإن بلغت فما عليك شيء، وإن اتخذت الأسباب في الحروب للظفر، وتوكلت على الله، فإن الله مانحك النصر، ومعطيك الغلب، وإن خالف من معك ما سننت لهم من منهاج للظفر، فإن الهزيمة واقعة بهم، ولست مسئولا عما يصيبهم القدر به من أمر يسرهم، ولا أمر يسوؤهم، وفي قوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولا} يذكر سبحانه كلمة {رسولا} تأكيدا لوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولبيان أن عمل الرسول ليس هو التحكم في القدر، إنما عمله التبليغ فقط، فإذا بلغ فما عليه من شيء.
وإذا كانوا قد اتهموك وقالوا ما قالوا، فكفاك شهادة الله لك بأنك بلغت وجاهدت، وأن ما يرمونك به باطلا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
وإن تصرف أولئك المنافقين والضعفاء فيه إخلال بواجب الطاعة، وإن الرسالة التي حمل عبئها محمد صلى الله عليه وسلم توجب عليهم طاعته من غير تمرد، بل مع الإذعان والخضوع لما يطلبه باسم الله، وأن يعلموا أن طاعته فيها طاعة الله، فإن تمردوا عليه أو تشاءموا به، فليعلموا أن ذلك تمرد على الله، ولذا قال سبحانه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من أين تأتي الانتصارات والهزائم؟
يشير القرآن في هاتين الآيتين إِلى وهم آخر من أوهام المنافقين، حين يوضح أن هؤلاء إِذا أحرزوا نصراً أو غنموا خيراً قالوا: إِنّ الله هو الذي أنعم عليهم بذلك، وزعموا أنّهم أهل لهذه النعمة: (وإِن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله).
أمّا إِذا مني هؤلاء بهزيمة أو لحقهم أذى في ميدان القتال، ألقوا اللوم على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وافتروا عليه بقولهم إِنّ ما نالهم من سوء هو من عنده، متهمين خططه العسكرية بالضعف، من ذلك ما حدث في غزوة أُحد، تقول الآية: (وإِن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك...).
ويحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الآية قد نزلت بشأن اليهود، ويرون أنّ المقصود بالحسنة والسيئة هنا هو ما كان يحدث من وقائع سارة وضارة، حيث كان اليهود حين بعثة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينسبون كلّ حدث سار ونافع إِلى الله، ويعزون حدوث الوقائع الضّارة إِلى وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيهم، بينما اتصال الآية بالآيات السابقة والتالية التي يدور الحديث فيها عن المنافقين يدل على أنّ المقصود في هذه الآية الأخيرة هم المنافقون.
ومهما يكن من أمر، فإنّ القرآن الكريم يردّ على هؤلاء مؤكداً إنّ الإِنسان المسلم الموحد الذي يؤمن صادقاً بالله ويعبده ولا يعبد سواه، إِنّما يعتقد بأنّ كل الوقائع والأحداث والانتصارات والهزائم هي بيد الله العليم الحكيم، فالله هو الذي يهب الإِنسان ما يستحقه ويعطيه بحسب قيمته الوجودية، وفي هذا المجال تقول الآية: (قل كلّ من عند الله).
والآية هذه تحمل في آخرها تقريعاً وتأنيباً للمنافقين الذين لا يتفكرون ولا يمعنون في حقائق الحياة المختلفة، حيث تقول: (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً).
وبعد هذا في الآية التالية يصرّح القرآن بأنّ كل ما يصيب الإِنسان من خيرات وفوائد وكل ما يواجهه الكائن البشري من سرور وانتصار هو من عند الله، وإِن ما يحصل للإِنسان من سوء وضرر وهزيمة أو خسارة فهو بسبب الإِنسان نفسه تقول الآية: (ما أصابك من حسنة فمن عند الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك...) وتردّ الآية في آخرها على أُولئك الذين كانوا يرون وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبباً لوقوع الحوادث المؤسفة فيما بينهم فتقول: (وأرسلناك للنّاس رسولا وكفى بالله شهيداً).
السّؤال المهم الذي يتبادر إِلى الذهن حين قراءة هاتين الآيتين الأخيرتين هو: لماذا نسب الخير والشر في الآية الأُولى كلّه لله؟ ولماذا حصرت الآية التالية الخير وحده لله، ونسبت الشرّ إِلى الإِنسان؟
حين نمعن النظر في الآيتين تواجهنا عدّة أُمور، يمكن لكل منها أن يكون هو الجواب على هذا السؤال.
لو أجرينا تحليلا على عناصر تكوين الشر لرأينا أنّ لها اتجاهين: أحدهما إِيجابي والآخر سلبي، والاتجاه الأخير هو الذي يجسد شكل الشر أو السيئة ويبرزه على صورة «خسارة نسبية» فالإِنسان الذي يقدم على قتل نظيره بسلاح ناري أو سلاح بارد يكون قد ارتكب بالطبع عملا شريراً وسيئاً، فما هي إِذن عوامل حدوث هذا العمل الشرير؟
إِنّها تتكون من: أوّلا: قدرة الإِنسان وعقله وقدرة السلاح والقدرة على الرمي والتهديف الصحيحين واختيار المكان والزمان المناسبين، وهذه تشكل عناصر الاتجاه الإِيجابي للقضية، لأنّ كل عنصر منها يستطيع في حدّ ذاته أن يستخدم كعامل لفعل حسن إِذا استغل الاستغلال الحكيم، أمّا الاتجاه السلبي فهو في استغلال كل من هذه العناصر في غير محله، فبدلا من أن يستخدم السلاح لدرء خطر حيوان مفترس أو للتصدي لقاتل ومجرم خطير، يُستخدم في قتل إِنسان بريء، فيجسد بذلك فعل الشر، وإِلاّ فإِنّ قدرة الإِنسان وعقله وقدرته على الرمي والتهديف، وأصل السلاح وكل هذه العناصر، يمكن أن يستفاد منها في مجال الخير.
وحين تنسب الآية الأُولى الخير والشرّ كلّه لله، فإِن ذلك معناه أنّ مصادر القوّة جميعها بيد الله العليم القدير حتى تلك القوّة التي يساء استخدامها، ومن هذا المنطلق تنسب الخير والشرّ لله، لأنّه هو واهب القوى.
والآية الثّانية: تنسب «السيئات» إِلى الناس انطلاقا من مفهوم «الجوانب السلبية» للقضية ومن الإِساءة في استخدام المواهب الإِلهية.
تماماً مثل والد وهب ابنه مالا ليبني به داراً جديدة، لكن هذا الولد بدلا من أن يستخدم هذا المال في بناء البيت المطلوب، اشترى مخدرات ضارة أو صرفه في مجالات الفساد والفحشاء، لا شك أنّ الوالد هو مصدر هذا المال، لكن أحداً لا ينسب تصرف الابن لوالده، لأنه أعطاه للولد لغرض خيري حسن، لكن الولد أساء استغلال المال، فهو فاعل الشرّ، وليس لوالده دخل في فعلته هذه.
ويمكن القول أيضاً بأنّ الآية الكريمة إِنّما تشير إِلى موضوع «الأمر بين الأمرين».
وهذه قضية بحثت في مسألة الجبر والتفويض، وخلاصة القول فيها أنّ جميع وقائع العالم خيراً كانت أم شرّاً هي من جانب واحد تتصل بالله سبحانه القدير لأنّه هو الذي وهب الإِنسان القدرة والقوّة وحرية الانتخاب والاختيار، وعلى هذا الأساس فإِنّ كل ما يختاره الإِنسان ويفعله بإِرادته وحريته لا يخرج عن إِرادة الله، لكن هذا الفعل ينسب للإِنسان لأنّه صادر عن وجوده، وإِرادته هي التي تحدد اتجاه الفعل.
ومن هنا فإِنّنا مسؤولون عن أعمالنا، واستناد أعمالنا إِلى الله بالشكل الذي أوضحناه لا يسلب عنّا المسؤولية ولا يؤدي إِلى الاعتقاد بالجبر.
وعلى هذا الأساس حين تنسب «الحسنات» و«السيئات» إِلى الله سبحانه وتعالى، فلفاعلية الله في كل شيء، وحين تنسب السيئة إِلى الإِنسان فلإِرادته وحريته في الاختيار.
وحصيلة هذا البحث إِنّ الآيتين معاً تثبتان قضية الأمر «الأمر بين الأمرين» (تأمل بدقّة)!