الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

قوله تعالى : " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك ، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته . أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم ، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم ، أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم . قاله الحسن والسدي وغيرهما ، كما قال تعالى : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء{[4646]} " [ الطلاق :1 ] . وقد قيل : الخطاب للإنسان والمراد به الجنس ، كما قال تعالى : " والعصر إن الإنسان لفي خسر{[4647]} " [ العصر :1 - 2 ] أي إن الناس لفي خسر ، ألا تراه استثنى منهم فقال " إلا الذين آمنوا " ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة . وعلى هذا التأويل يكون قوله " ما أصابك " استئنافا . وقيل : في الكلام حذف تقديره يقولون ، وعليه يكون الكلام متصلا ، والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله . وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ، والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله وتعالى : " وتلك نعمة تمنها علي " {[4648]} والمعنى أو تلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى : " فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي{[4649]} " [ الأنعام : 77 ] أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي :

رموني وقالوا{[4650]} يا خويلد لم تُرع *** فقلت وأنكرت الوجوه همُ همُ

أراد " أهم " فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي . قال الأخفش " ما " بمعنى الذي . وقيل : هو شرط . قال النحاس : والصواب قول الأخفش ؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب ، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة . وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك " فهذه قراءة على التفسير ، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن ، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع ؛ لأن مجاهدا لم ير عبدالله ولا أبيا . وعلى قول من قال : الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما أصابهم يوم أحد ؛ أنهم{[4651]} عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم ، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم ، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل{[4652]} ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم ، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية ، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه ، على ما تقدم في " آل عمران{[4653]} " بيانه . فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى : " أولما أصابتكم مصيبة " [ آل عمران : 165 ] يعني يوم أحد " قد أصبتم مثليها " يعني يوم بدر " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " . ولا يجوز أن تكون الحسنة ههنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية ؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا ؛ إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا ، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها{[4654]} " [ الأنعام :160 ] وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية " الأعراف " وهي قوله تعالى : " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " [ الأعراف : 130 ] . " بالسنين " بالجدب سنة بعد سنة ، حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم . " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل أتباعنا لك وطاعتنا إياك ؛ فرد الله عليهم بقوله : " ألا إنما طائرهم عند الله " [ الأعراف : 131 ] يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق ؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله " كما قال : " ألا إنما طائرهم عند الله " وكما قال تعالى : " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله " [ آل عمران : 166 ] أي بقضاء الله وقدره وعلمه ، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض . قال علماؤنا : ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ، كما قال تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة{[4655]} " [ الأنبياء : 35 ] وقال تعالى : " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال{[4656]} " [ الرعد : 11 ] . مسألة : وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها ، كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها ، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون : إن الحسنة ههنا الطاعة ، والسيئة المعصية ؛ قالوا : وقد نسب المعصية في قوله تعالى : " وما أصابك من سيئة فمن نفسك " إلى الإنسان دون الله تعالى ؛ فهذا وجه تعلقهم بها . ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى : " قل كل من عند الله " قالوا : فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه . وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا ؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية ، وليست كذلك لما بيناه . والله أعلم . والقدرية إن قالوا " ما أصابك من حسنة " أي من طاعة " فمن الله " فليس هذا اعتقادهم ؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء . وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا ، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره . نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن{[4657]} شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم .

قوله تعالى : " وأرسلناك للناس رسولا " مصدر مؤكد ، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة " وكفى بالله شهيدا " نصب على البيان والباء زائدة ، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق .


[4646]:راجع ج 18 ص 147 فما بعدها.
[4647]:راجع ج 20 ص 178.
[4648]:راجع ج 13 ص 93.
[4649]:راجع ج 7 ص 27.
[4650]:في اللسان مادة "رفأ": رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ورفوت الرجل: سكنته، يقول: سكنوني. وقال ابن هانىء: يريد رفئوني فألقى الهمزة؛ قال: والهمزة لا تلقى إلا في الشعر، وقد ألقاها في هذا البيت، ومعناه: إني فزعت فطار قلبي فضموا بعضي إلى بعض.
[4651]:في ج ، ط، ز: وكأنهم.
[4652]:من ج، ط، ز.
[4653]:راجع ج 4 ص 237 فما بعد.
[4654]:راجع ج 7 ص 150-151.
[4655]:راجع ج 11 ص 287.
[4656]:راجع ج 9 ص 294.
[4657]:في أ، ح: أبو الحسين، وفي ج، ط، ز: أبو الحسن شبيب. والذي في البحر: "أبو الحسن شيب".