إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

وقولُه تعالى : { مَا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ } الخ ، بيانٌ للجواب المُجْملِ المأمورِ به ، وإجراؤُه على لسان النبيِّ عليه الصلاة والسلام ثم سَوْقُ البيانِ من جهته عز وجل بطريق تلوبنِ الخطابِ وتوجيهِه إلى كل واحدٍ من الناس ، والالتفاتُ لمزيد الاعتناءِ به والاهتمامُ بردِّ مقالتِهم الباطلةِ والإشعارِ بأن مضمونَه مبنيٌّ على حكمة دقيقةٍ حتى بأن يتولى بيانَها علامُ الغيوبِ ، وتوجيهُ الخطابِ إلى كل واحدٍ منهم دون كلِّهم كما في قوله تعالى : { وَمَا أصابكم من مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى ، الآية 30 ] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمالِ سببيّة معصيةِ بعضِهم لعقوبة الآخرين أي ما أصابك من نعمة من النعم { فَمِنَ الله } أي فهي منه تعالى بالذات تفضُلاً وإحساناً من غير استيجابٍ لها مِنْ قِبَلك ، كيف لا وأن كلَّ ما يفعله المرءُ من الطاعات التي يُفرض كونُها ذريعةً إلى إصابة نعمةٍ ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمةَ حياتِه المقارنةِ لأدائها ، ولا نعمةَ إقدارِه تعالى إياه على أدائها فضلاً عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «ما أحدٌ يدخُل الجنة إلا برحمة الله تعالى » قيل : ولا أنت يا رسولَ الله ؟ قال : «ولا أنا » . { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ } أي بلية من البلايا { فَمِن نفْسِكَ } أي فهي منها بسبب اقترافِها المعاصيَ الموجبةَ لها ، وإن كانت من حيث الإيجادُ منسوبةً إليه تعالى نازلةً من عنده عقوبةً كقوله تعالى : { وَمَا أصابكم من مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ } [ الشورى ، الآية 30 ] وعن عائشةَ رضي الله عنها : «ما من مسلم يُصيبه وصَبٌ ولا نصَبٌ حتى الشوكةُ يُشاكُها وحتى انقطاعُ شِسْعِ نعلِه إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثرُ » ، وقيل : الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبله وما بعده ، لكن لا لبيان حالِه عليه الصلاة والسلام بل لبيان حالِ الكفرةِ بطريق التصويرِ ، ولعل ذلك لإظهار كمالِ السخطِ والغضبِ عليهم والإشعارِ بأنهم -لفرط جهلِهم وبلادتهم- بمعزل عن استحقاق الخطابِ لاسيما بمثل هذه الحكمةِ الأنيقة { وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً } بيانٌ لجلالة منصبِه عليه الصلاة والسلام ومكانتِه عند الله عز وجل بعد بيانِ بُطلانِ زعمِهم الفاسدِ في حقه عليه الصلاة والسلام بناءً على جهلهم بشأنه الجليلِ ، وتعريفُ الناسِ للاستغراق ، والجارُّ إما متعلقٌ برسولاً قُدّم عليه للاختصاص الناظرِ إلى قيد العمومِ أي مرسَلاً لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قوله تعالى : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً للنَّاسِ } [ سبأ ، الآية 28 ] وإما بالفعل ، فرسولاً حالٌ مؤكدةٌ وقد جُوِّز أن يكون مصدراً كما في قوله : [ الطويل ]

لقد كذَب الواشون ما فُهْتُ عندهم *** بسرٍّ ولا أرسلتُهم برسولِ{[148]}

أي بإرسال بمعنى رسالة { وكفى بالله شَهِيداً } أي على رسالتك ، بنصب المعجزاتِ التي من جملتها هذا النصُّ الناطقُ والوحيُ الصادِقُ ، والالتفاتُ لتربية المهابةِ وتقويةِ الشهادة ، والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ .


[148]:وهو لكثير في ديوانه ص 110، ولسان العرب 11/283 (رسل) وبلا نسبة في تهذيب اللغة 12/391.