البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

{ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } الخطاب عام كأنه قيل : ما أصابك يا إنسان .

وقيل : للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره .

وقال ابن بحر : هو خطاب للفريق في قوله : { إذا فريق منهم } قال : ولما كان لفظ الفريق مفرداً ، صح أن يخبر عنه بلفظ الواحد تارة ، وبلفظ الجمع تارة .

وعليه قوله :

تفرق أهلاً نابثين فمنهم *** فريق أقام واستقل فريق

هذا مقتضى اللفظ .

وأما المعنى بالناس خاصتهم وعامتهم مراد بقوله : ما أصابك من حسنة .

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن ، وابن زيد ، والربيع ، وأبو صالح : معنى الآية أنه أخبر تعالى على سبيل الاستئناف والقطع أنَّ الحسنة منه بفضله ، والسيئة من الإنسان بذنوبه ، ومن الله بالخلق والاختراع .

وفي مصحف ابن مسعود : فمن نفسك ، وإنما قضيتها عليك ، وقرأ بها ابن عباس .

وحكى أبو عمرو : أنها في مصحف ابن مسعود ، وأنا كتبتها .

وروي أن ابن مسعود وأبياً قرآ : وأنا قدرتها عليك .

ويؤيد هذا التأويل أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم معناها : « أن ما يصيب الإنسان من المصائب فإنما هو عقوبة ذنوبه » وقالت طائفة : معنى الآية هو على قول محذوف تقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ؟ يقولون : ما أصابك من حسنة الآية .

والابتداء بقوله : { وأرسلناك } والوقف على قوله : فمن نفسك .

وقالت طائفة : ما أصابك من حسنة فمن الله ، هو استئناف إخبار من الله أنَّ الحسنة منه وبفضله .

ثم قال : وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، على وجه الإنكار والتقدير : وألف الاستفهام محذوفة من الكلام كقوله : { وتلك نعمة تمنها عليّ } أي : وتلك نعمة .

وكذا { بازغاً قال : هذا ربي } على أحد الأقوال ، والعرب تحذف ألف الاستفهام قال أبو خراش :

رموني وقالوا يا خويلد لم ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي : أهم هم .

وحكى هذا الوجه عن ابن الأنباري .

وروى الضحاك عن ابن عباس أن الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما نكبوا به يوم أحد .

وعن عائشة رضي الله عنها : « ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها ، حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر » .

وقال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ونعفوا عن كثير }

وقد تجاذبت القدرية وأهل السنة الدلالة من هذه الآيات على مذاهبهم ، فتعلقت القدرية بالثانية وقالوا : ينبغي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله بوجه ، وجعلوا الحسنة والسيئة في الأولى بمعنى الخصب والجدب والغنى والفقر .

وتعلق أهل السنة بالأولى وقالوا : { قل كل من عند الله } عام يدل على أن الأفعال الظاهرة من العباد هي من الله تعالى ، وتأولوا الثانية وهي : مسألة يبحث عنها في أصول الدين .

وقال القرطبي : هذه الآيات لا يتعلق بها إلا الجهال من الفريقين ، لأنّهم بنوا ذلك على أنّ السيئة هي المعصية ، وليست كذلك .

والقدرية قالوا : ما أصابك من حسنة أي : من طاعة فمن الله ، وليس هذا اعتقادهم ، لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذاهبهم : أنّ الحسنة فعل المحسن ، والسيئة فعل المسيء .

وأيضاً فلو كان لهم فيه حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ، لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعاً ، فلا تضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره ، نص على هذا الإمام أبو الحسن شيث بن ابراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحزّ العلاصم في إفحام المخاصم .

وقال الراغب : إذا تؤمّل مورد الكلام وسبب النزول فلا تعلق لأحد الفريقين بالآية على وجه يثلج صدراً أو يزيل شكاً ، إذ نزلت في قوم أسلموا ذريعة إلى غنى وخصب ينالونه ، وظفر يحصلونه ، فكان أحدهم إذا نابتة نائبة ، أو فاته محبوب ، أو ناله مكروه ، أضاف سببه إلى الرسول متطيراً به .

والحسنة هنا والسيئة كهما في : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } وفي { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } انتهى .

وقد طعن بعض الملاحدة فقال : هذا تناقض ، لأنه قال : قل كل من عند الله وقال عقيبه : ما أصابك من حسنة الآية .

وقال الراغب : وهذا ظاهر الوهي ، لأن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة كالحيوان الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار .

ومن الأسماء المختلفة كالعين .

فلو أنّ قائلاً قال : الحيوان المتكلم والحيوان غير المتكلم ، وأراد بالأول الإنسان ، وبالثاني الفرس أو الحمار ، لم يكن متناقضاً .

وكذلك إذا قال : العين في الوجه ، والعين ليس في الوجه ، وأراد بالأولى الجارحة ، وبالثانية عين الميزان أو السحاب .

وكذلك الآية أريد بهما في الأولى غير ما أريد في الثانية كما بيناه انتهى .

والذي اصطلح عليه الراغب بالمشتركة وبالمختلفة ليس اصطلاح الناس اليوم ، لأن المشترك هو عندهم كالعين ، والمختلفة هي المتباينة .

والراغب جعل الحيوان من الأسماء المشتركة وهو موضوع للقدر المشترك ، وجعل العين من الأسماء المختلفة وهو في الاصطلاح اليوم من المشترك .

قال بعض أهل العلم : والفرق بين من عند الله ، ومن الله : أنَّ من عند الله أعم .

يقال : فيما كان برضاه وبسخطه ، وفيما يحصل ، وقد أمر به ونهى عنه ، ولا يقال : هو من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره ، وبهذا النظر قال عمر : إنْ أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن الشيطان انتهى .

وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله : { إن النفس لأمارة بالسوء } وقرأت عائشة رضي الله عنها : فمن نفسك بفتح الميم ورفع السين ، فمن استفهام معناه الإنكار أي : فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل المعنى ما للنفس في الشيء فعل .

{ وأرسلناك للناس رسولاً } أخبر تعالى أنه قد أزاح عللهم بإرساله ، فلا حجة لهم لقوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } وللناس عام عربهم وعجمهم ، وانتصب رسولاً على الحال المؤكدة .

وجوّز أن يكون مصدراً بمعنى إرسالاً ، وهو ضعيف .

{ وكفى بالله شهيداً } أي مطلعاً على ما يصدر منك ومنهم ، أو شهيداً على رسالتك .

ولا ينبغي لمن كان الله شاهده إلا أن يطاع ويتبع ، لأنه جاء بالحق والصدق ، وشهد الله له بذلك .

/خ79