معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

قوله تعالى : { ومن كان في هذه أعمى } ، اختلفوا في هذه الإشارة ، فقال قوم : هي راجعة إلى النعم التي عددها الله تعالى فبهذه الآيات من قوله : { ربكم الذي يزجي لكم الفلك } إلى قوله { تفضيلاً } يقول : ومن كان منكم في هذه النعم التي قد عاين أعمى ، { فهو في } ، في أمر ، { الآخرة } ، التي لم يعاين ولم ير ، { أعمى وأضل سبيلاً } ، يروى هذا عن ابن عباس . وقال الآخرون : هي راجعة إلى الدنيا ، يقول : من كان في هذه أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق ، فهو في الآخرة أعمى ، وأضل سبيلاً ، أي : أخطأ طريقاً . وقيل : من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار ، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار . وقال الحسن : من كان في هذه الدنيا ضالاً كافراً ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته . وأمال بعض القراء هذين الحرفين ، وفتحهما بعضهم ، وكان أبو عمر يكسر الأول ويفتح الثاني ، فهو في الآخرة أشد عمى ، لقوله : { وأضل سبيلاً } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

58

ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . وأشد ضلالا . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل ، أعمى ضالا يتخبط ، لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به ، ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا ، لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ؛ يؤثر في القلوب !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

عطف { ومن كان في هذه أعمى } عطف القسيم على قسيمه فهو من حَيز « أما » التفصيلية ، والتقدير : وأما من كان في هذه أعمى ، ولما كان القسيم المعطوف عليه هم من أوتوا كتابهم باليمين علم أن المعطوف بضد ذلك يؤتى كتابه بالشمال فاستغني عن ذكر ذلك وأتي له بصلة أخرى وهي كونه أعمى حكماً آخر من أحواله الفظيعة في ذلك اليوم .

والإشارة ب { هذه } إلى معلوم من المقام وهو الدنيا ، وله نظائر في القرآن . والمراد بالعمى في الدنيا الضلالة في الدين ، أطلق عليها العمى على وجه الاستعارة .

والمراد بالعمى في الآخرة ما ينشأ عن العمى من الحيرة واضطراب البال ، فالأعْمَى أيضاً مستعار لمشابه الأعمى بإحدى العلاقتين .

ووصف { أعمى } في المرتين مراد به مجرد الوصف لا التفضيل . ولما كان وجه الشبه في أحوال الكافر في الآخرة أقوى منه في حاله في الدنيا أشير إلى شدة تلك الحالة بقوله : { وأضل سبيلاً } القائم مقام صيغة التفضيل في العمَى لكون وصف ( أعمى ) غير قابل لأن يصاغ بصيغة التفضيل لأنه جاء بصيغة التفضيل في حال الوصف .

وعدل عن لفظ ( أشد ) ونحوه ما يتوسل به إلى التفضيل عند تعذر اشتقاق صيغة ( أفعل ) ليتأتى ذكر السبيل ، لما في الضلال عن السبيل من تمثيل حال العمى وإيضاحه ، لأن ضلال فاقد البصر عن الطريق في حال السير أشد وقعاً في الأضرار منه وهو قابع بمكانه ، فعدل عن اللفظ الوجيز إلى التركيب المطنب لما في الإطناب من تمثيل الحال وإيضاحه وإفظاعه وهو إطناب بديع . وقد أفيد بذلك أن عماه في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل . ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره . فالمعنى : وأضل سبيلا منه في الدنيا .

ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خلياً عن لحاق الألم به ، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاصَ منه وهو مقارن للعذاب الدائم ، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته .