قوله تعالى : { ولقد همت به وهم بها } ، والهم هو : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه . فهمها : عزمها على المعصية والزنا . وأما همه : فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن . وعن مجاهد قال : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه ، وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد بن جبير والحسن . وقال الضحاك : جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول ، والقول ما قال متقدمو هذه الأمة ، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم . وقال السدي وابن إسحاق : لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عليه السلام عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها ، فقالت : يا يوسف ما أحسن شعرك ! . قال : هو أول ما ينتثر من جسدي . قالت : ما أحسن عينيك ! قال : هي أول ما تسيل على وجهي في قبري . قالت : ما أحسن وجهك ! قال : هو للتراب يأكله وقيل : إنها قالت : إن فراش الحرير مبسوط ، فقم فاقض حاجتي . قال : إذا يذهب نصيبي من الجنة . فلم تزل تطمعه وتدعوه إلي اللذة ، وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل ، وهي امرأة حسناء جميلة ، حتى لان لها مما يرى من كلفها ، وهم بها ، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره . وزعم بعض المتأخرين : أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ، وقال : تم الكلام عند قوله : { ولقد همت به } ، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال : { وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } ، على التقديم والتأخير ، أي : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، ولكنه رأى البرهان فلم يهم . وأنكره النحاة ، وقالوا : إن العرب لا تؤخر " لولا " عن الفعل ، فلا تقول : لقد قمت لولا زيد ، وهو يريد لولا زيد لقمت . وقيل : همت بيوسف أن يفترشها ، وهم بها يوسف أي : تمنى أن تكون له زوجة . وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم . وقال بعضهم : إن القدر الذي فعله يوسف عليه السلام كان من الصغائر ، والصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام . روي أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك حين خرج من السجن وأقرت المرأة ، قال يوسف : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبريل : هممت بها يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك : { وما أبرئ نفسي } الآية . وقال الحسن البصري : إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيرهم ، ولكن ذكرها ليبين موضع النعمة عليهم ، ولئلا ييأس أحد من رحمته . وقيل : إنه ابتلاهم بالذنوب لينفرد بالطهارة والعزة ، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية . وقيل : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء وترك الإياس من المغفرة والعفو . وقال بعض أهل الحقائق : الهم همان : هم ثابت ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضى ، مثل هم امرأة العزيز ، والعبد مأخوذ به ، وهم عارض وهو الخطرة ، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل هم يوسف عليه السلام ، فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد محمش الزيادي ، ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، ثنا أحمد بن يوسف السلمي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر عن همام بن منبه قال : ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها " .
قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } ، اختلفوا في ذلك البرهان : قال قتادة وأكثر المفسرين : أنه رأى صورة يعقوب ، وهو يقول له : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء ! . وقال الحسن وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقال السدي : نودي يا يوسف تواقعها ! إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوف السماء لا يطاق ، ومثلك إن تواقعها مثله إذا مات ووقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه . وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وهم بها } قال : حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته ، فإذا بكف قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار-11 ] فقام هاربا وقامت ، فما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهرت تلك الكف مكتوبا عليها : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } [ الإسراء-32 ] فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهر ، ورأى تلك الكف مكتوبا عليها { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة-281 ] فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فقال الله عز وجل لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عليه السلام عاضا على أصبعه ، يقول : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء . وروي أنه مسحه بحناحه فخرجت شهوته من أنامله . وقال محمد بن كعب القرظي : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين هم بها فرأى كتابا في حائط البيت : { لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } . وروى عطية عن ابن عباس : في البرهان أنه رأى مثال الملك . وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل . وعن علي بن الحسين قال : كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب ، فقال لها يوسف : لم فعلت هذا ؟ . فقالت : استحييت منه أن يراني على المعصية . فقال يوسف : أتستحين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ؟ فأنا أحق أن أستحي من ربي ، وهرب . قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } جواب لولا محذوف ، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لواقع المعصية . { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } ، فالسوء : الإثم . وقيل : السوء القبيح . والفحشاء : الزنا .
قوله تعالى : { إنه من عبادنا المخلصين } ، قرأ أهل المدينة والكوفة : { المخلصين } بفتح اللام حيث كان إذا لم يكن بعده ذكر الدين ، زاد الكوفيون مخلصاً في سورة مريم ففتحوا . ومعنى المخلصين المختارين للنبوة ، دليله : { إنا أخلصناهم بخالصة } [ ص~ -146 ] . وقرأ الآخرون بكسر اللام ، أي : المخلصين لله الطاعة والعبادة .
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود . فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب ، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته :
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) !
لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه ! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن ! - تنهي عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي ! حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي ، فجاء فضربه في صدره . . إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع !
وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل ، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك .
وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي . وقال : إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة ، وهم هو برد الاعتداء ؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر . . وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة . وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا ، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف ، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة ، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما .
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) .
هو نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم . . وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة . . ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك . فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا .
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف . وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية . وما كان يوسف سوى بشر . نعم إنه بشر مختار . ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف الطارئة ، عاد إلى الاعتصام والتأبي .
( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ) . .
{ ولقد همّت به وهمّ بها } وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه ، والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم ، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله . { لولا أن رأى برهان ربه } في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المغالبة ، ولا يجوز أن يجعل { وهم بها } جواب { لولا } فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها ، بل الجواب محذوف يدل عليه . وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام . وقيل تمثل له يعقوب عاضا على أنامله . وقيل قطفير . وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء . { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو الأمر مثل ذلك . { لنصرف عنه السّوء } خيانة السيد . { والفحشاء } الزنا . { إنه من عبادنا المخلصين } اللذين أخلصهم الله لطاعته . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله .
وقوله : { ولقد همت به } الآية ، لا شك أن «هم » زليخا كان في أن يواقعها يوسف ، واختلف في «هم » يوسف عليه السلام ، فقال الطبري : قالت فرقة : كان مثل «همها » ، واختلفوا كيف يقع من مثل يوسف وهو نبي ؟ فقيل ذلك ليريه الله تعالى موقع العفو والكفاية ، وقيل الحكمة في ذلك أن يكون مثالاً للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع بهم إلى عفو الله كما رجعت بمن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب ، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخا وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو هذا ، وهي قد استلقت له ؛ قاله ابن عباس وجماعة من السلف .
وقالت فرقة في «همه » إنما كان بخطرات القلب التي لا يقدر البشر عن التحفظ منها ، ونزع عند ذلك ولم يتجاوزه ، فلا يبعد هذا على مثله عليه السلام ، وفي الحديث :
«إن من هم بسيئة ولم يعملها فله عشر حسنات »{[6632]} وفي حديث آخر «حسنة » ، فقد يدخل يوسف في هذا الصنف .
وقالت فرقة : كان «هم » يوسف بضربها ونحو ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف البتة ، والذي أقول في هذه الآية : إن كون يوسف نبياً في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به رواية ، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكماً وعلماً ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة ؛ وإن فرضناه نبياً في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر ، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك ، لأن العصمة مع النبوة ، وما روي من أنه قيل له : تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء ، فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد ، والهم بالشيء مرتبتان : فالواحدة الأولى تجوز عليه مع النبوة ، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي ، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها مالم تنطق به أو تعمل »{[6633]} معناه من الخواطر ، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحاً ، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر ، ومما يؤيد أن استصحاب الخاطر معصية قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه »{[6634]} .
وقول الله تعالى : { إن بعض الظن إثم }{[6635]} وهذا منتزع من غير موضع من الشرع ، والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز .
واختلف في «البرهان » الذي رأى يوسف ، وقيل : نودي . واختلف فيما نودي به ، فقيل ناداه جبريل : يا يوسف ، تكون في ديوان الأنبياء . وتفعل فعل السفهاء ؟ وقيل : نودي : يا يوسف ، لا تواقع المعصية فتكون كالطائر الذي عصى فتساقط ريشه فبقي ملقى - ناداه بذلك يعقوب - ، وقيل غير هذا مما في معناه ، وقيل : كان «البرهان » كتاباً رآه مكتوباً ، فقيل : في جدار المجلس الذي كان فيه ، وقيل : بين عيني زليخا ، وقيل : في كف من الأرض خرجت دون جسد ؛ واختلف في المكتوب ، فقيل : قوله تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }{[6636]} ، وقيل : قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً }{[6637]} وقيل غير هذا . وقيل : كان البرهان أن رأى يعقوب عليه السلام ممثلاً معه في البيت عاضاً على إبهامه وقيل : على شفته . وقيل بل انفرج السقف فرآه كذلك . وقيل : إن جبريل قال له : لئن واقعت المعصية لأمحونك من ديوان النبوة ، وقيل : إن جبريل ركضه فخرجت شهوته على أنامله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقيل : بل كان «البرهان » فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية ، وقيل : بل كان البرهان الذي اتعظ به أن زليخا قالت له : مكانك حتى أستر هذا الصنم - لصنم كان معها في البيت - فإني أستحيي منه أن يراني على هذه الحال ؛ وقامت إليه فسترته بثوب فاتعظ يوسف وقال : من يسترني أنا من الله القائم على كل شيء ، وإذا كنت أنت تفعلين هذا لما لا يعقل فإن أولى أن أستحيي من الله .
و «البرهان » في كلام العرب الشيء الذي يعطي القطع واليقين ، كان مما يعلم ضرورة أم بخبر قطعي أو بقياس نظري ، فهذه التي رويت فيما رآه يوسف براهين .
و { أن } في قوله : { لولا أن رأى } في موضع رفع ، التقدير : لولا رؤيته برهان ربه ، وهذه { لولا } التي يحذف معها الخبر ، تقديره : لفعل أو لارتكب المعصية . وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله : { ولقد همت به } وأن جواب { لولا } في قوله : { وهم بها } وأن المعنى : لولا أن رأى البرهان لهمَّ أي فلم يهم عليه السلام ، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف{[6638]} . قال الزجّاج : ولو كان الكلام : ولهمَّ بها لولا ، لكان بعيداً ، فكيف مع سقوط اللام{[6639]} ! .
والكاف من قوله : { كذلك } متعلقة بمضمر تقديره : جرت أفعالنا وأقدارنا { كذلك لنصرف }{[6640]} ، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير : عصمتنا له كذلك لنصرف .
وقرأ الجمهور «لنصرف » بالنون ، وقرأ الأعمش «ليصرف » بالياء - على الحكاية عن الغائب{[6641]} - ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء «المخلِصين » بكسر اللام في كل القرآن ، وكذلك { مخلصاً } في سورة مريم{[6642]} . وقرأ نافع { مخلصاً } [ الزمر : 2-11-14 ، مريم : 51 ] كذلك بكسر اللام ، وقرأ سائر القرآن «المخلَصين » بفتح اللام ، وقرأ حمزة والكسائي وجمهور من القراء «المخلَصين » بفتح اللام و «مخلصاً » كذلك في كل القرآن .
الهم : العزم على الفعل . وتقدم عند قوله تعالى : { وهمّوا بما لم ينالوا } في سورة براءة ( 74 ) . وأكد همّها ب { قد } ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزماً محققاً .
وجملة { ولقد همت به } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . والمقصود : أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة . والمقصود من ذكر هَمّها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم .
وجملة { وهَمّ بها لولا أن رأى برهان ربه } معطوفة على جملة { ولقد همت به } كلها . وليست معطوفة على جملة { همت } التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام ، لأنه لما أردفت جملة { وهمّ بها } بجملة شرط { لولا } المتمحض لكونه من أحوال يوسف عليه السّلام وحْده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين ، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها .
فالتقدير : ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها ، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به . ولم يقرن الجواب باللاّم التي يكثر اقتران جواب { لولا } بها لأنه ليس لازماً ولأنه لمّا قُدم على { لولا } كُره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط ، فيحسن الوقف على قوله : { ولقد همت به } ليظهر معنى الابتداء بجملة { وهَمّ بها } واضحاً . وبذلك يظهر أن يوسف عليه السّلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان .
قال أبو حاتم : كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : { ولقد همّت به وهمّ بها } الآية قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط ، كأنه قال : ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها .
وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب { لولا } لا يتقدم عليها . ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب { لولا } ، على أنه قد يجعل المذكور قبل { لولا } دليلاً للجواب والجواب محذوفاً لدلالة ما قبل { لولا } عليه . ولا مفرّ من ذلك على كل تقدير فإن { لولا } وشرطها تقييد لقوله : { وهمّ بها } على جميع التأويلات ، فما يقدّر من الجواب يقدّر على جميع التأويلات .
وقال جماعة : هَمّ يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكفّ على ذلك لما رأى برهان ربه . قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن أبي مليكة ، وثعْلب . وبيان هذا أنه انصرف عمّا همّ به بحفظ الله أو بعصمته ، والهمّ بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة ، وهو قول الجمهور ، وفيه خلاف ، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف . وقال جماعة : هَمّ يوسف وأخذ في التهيّؤ لذلك فرأى برهاناً صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك . وهذا قول السديّ ، ورواية عن ابن عباس . وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله .
وقد خبط صاحب « الكشاف » في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجْبرة ، وهو يعني الأشاعرة ، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التّأويلات ( رمتني بدائها وانسلت ) ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف عليه السّلام قتلَه والقتلُ أشد .
والرؤية : هنا عِلمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر .
والبرهان : الحجة . وهذا البرهان من جملته صرفهُ عن الهمّ بها ، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهمّ بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفّر دواعي الهمّ من حسنها ، ورغبتها فيه ، واغتباط أمثاله بطاعتها ، والقرب منها ، ودواعي الشباب المسولة لذلك ، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهمّ بها دون شيء آخر .
واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان ، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبّحت له هذا الفعل ، وقيل : هو وحي إلهي ، وقيل : حفظ إلهي ، وقيل : مشاهدات تمثلت له .
والإشارة في قوله : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } إلى شيء مفهوم مما قبله بتضمنه قوله : { رأى برهان ربّه } ، وهو رأي البرهان ، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء .
والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه . عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئاً . والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه .
والسوء : القبيح ، وهو خيانة من ائتمنه . والفحشاء : المعصية ، وهي الزنى . وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) . ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما .
وجملة { إنه من عبادنا المخلصين } تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاء الله إياه في هذه الشدة على النفس .
قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { المخلَصين } بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله . ومعنى التعليل على القراءتين واحد .