محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

/ [ 24 ] { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين 24 } .

{ ولقد همت به ، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين } ( الهم ) : يكون بمعنى القصد والإرادة ، ويكون فوق الإرادة ودون العزم ، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه ، وبالعزم : القصد إلى إمضائه فهو أول العزيمة وهذا معنى قولهم : الهم همان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا وهو مذموم مؤاخذ به ، وهم بمعنى خاطر ، وحديث نفس ، من غير تصميم ، وهو غير مؤاخذ به . لأن خطور المناهي في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .

روى الشيخان{[4918]} وأهل ( السنن ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " . ورواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما .

فمعنى قوله تعالى : { ولقد همت به } أي بمخالطته ، أي قصدتها وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنه صارف ، بعدما باشرت مبادئها من المراودة ، وتغليق الأبواب ، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها { هيت لك } مما اضطره إلى الهرب إلى الباب .

ومعنى قوله : { وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } أي لولا رؤيته برهان ربه لهم بها ، كما همت به ، لتوفر الدواعي . ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء .

/ قال أبو حيان : ونظيره ( قارفت الإثم لولا أن الله عصمك ) . ولا نقول : إن جواب ( لولا ) يتقدم عليها ، وإن لم يقم دليل على امتناعه ، بل صريح أداوت الشرط العاملة مختلف فيها ، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه ، بل نقول : هو محذوف لدلالة ما قبله عليه ، لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله . انتهى .

فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلا . وقيل : جواب ( لولا ) لغشيها ونحوه . فمعنى ( الهم ) حينئذ ما قاله الإمام الرازي : من أنه خطور الشيء بالبال ، أو ميل الطبع ، كالصائم في الصيف ، يرى الماء البارد ، فتحمله نفسه على الميل إليه ، وطلب شربه ، ولكن يمنعه دينه عنه . وكالمرأة الفائقة حسنا وجمالا ، تتهيأ للشاب النامي القوي ، فتقع بين الشهوة والعفة ، وبين النفس والعقل ، مجاذبة ومنازعة . ( فالهم ) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة ، ورؤية البرهان جواذب الحكمة . وهذا لا يدل على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحال أشد ، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل . انتهى .

وكذا قال أبو السعود : إن همه بها بمعنى ميله إليها ، بمقتضى الطبيعة البشرية ، وشهوة الشباب وقرمه ، ميلا جليا ، لا يكاد يدخل تحت التكليف ، لا أنه قصدها قصدا اختياريا ، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ، ونفرته عنه ، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين ؟ وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه عليه السلام - تسجيلا محكما ؟ وإنما عبر عنه بالهم ، لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر ، بطريق المشاكلة ، لا لشبهه به كما قيل . ولقد أشير إلى تباينهما ، حيث لم يلزّا في قرن واحد من التعبير ، بأن قيل : ولقد هما بالمخالطة ، أو هم كل منهما بالآخر . وصدر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ، وعقب الثاني بما يعفوا أثره من قوله عز وجل : { لولا أن رأى برهان ربه } ، أي حجته الباهرة ، الدالة على كمال قبح الزنى ، وسوء سبيله . والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين . وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى / بموجب ذلك البرهان النير ، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون ، وأوجب ما يجب أن يحذر منه ، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام ، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه .

وجواب ( لولا ) محذوف ، يدل عليه الكلام . . أي : لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميلة الجبلي ، ولكن حيث كان مشاهدا له من قبل ، استمر على ما هو عليه من قضية البرهان . وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام ، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة ، بل لمحض العفة والنزاهة ، مع وفور الدواعي الداخلية ، وترتيب المقدمات الخارجية ، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية . انتهى .

فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام ، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس ، وخواطر الشهوة الجبلية ، ولكنهم معصومون من طاعتها ، والانقياد إليها . ولو لم توجد عندهم دواع جبلية ، لكانوا إما ملائكة أو عالما آخر . ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي ، لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعا . والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى ؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل ، والترك بغير داعية ليس عملا ، وأما الترك مع الداعية ، فهو كف النفس عما تتشوف إليه ، فهو عمل نفسي .

وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم ، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها ، لئلا يكونوا قدوة سيئة ، مفسدين للأخلاق والآداب ، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع ، وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري .

هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ، ما تلقفوه من أهل الكتاب ، ومن المتصولحين ، من تلك الأقاصيص المختلفة على يوسف عليه السلام ، في همه ، التي أثره تأليفي عن نقلها ، بردها ، وكلها - كما قال العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل ، تمجها الآذان ، وتردها العقول والأذهان ، ويل لمن لاكها ولفقها ، أو سمعها وصدقها . وسبقه / الزمخشري ، فجوّد الكلام في ردها ، فلينظر ، فإنه مما يسر الواقف عليه .

و ( السوء ) : المنكر والفجور والمكروه . ( والفحشاء ) : ما تناهى قبحه .

قال أبو السعود : وفي قوله تعالى { لنصرف عنه . . . } الخ آية بينة ، وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية ، ولا توجد إليها قط ، وإلا لقيل ، لنصرفه عن السوء والفحشاء . وإنما توجه إليه ذلك من خارج ، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة . فتأمل .

و { المخلصين } قرئ بكسر اللام ، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله ، وبالفتح أي الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم .

قال الشهاب : قيل : إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام . فشهد الله تعالى بقوله : { لنصرف . . . } الخ ، وشهد هو على نفسه بقوله : { هي راودتني } ونحوه ، وشهدت امرأة العزيز بقولها : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وسيدها بقوله : { إنك كنت من الخاطئين } وإبليس بقوله : { لأغوينّهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } فتضمن إخباره بأنه لم يغوه ، ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص . انتهى . عفا الله عنهم !


[4918]:أخرجه البخاري في: 49- كتاب العتق، 6- باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، حديث رقم 1242. وأخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث رقم 201 و 202 (طبعتنا).