السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

{ ولقد همت به وهم بها } ، أي : قصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهمَّ بالشيء قصده والعزم عليه ، ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بشيء أمضاه والمراد بهمته ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ ، ولهذا قال بعض أهل الحقائق : الهمّ قسمان : همّ ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز ، فالعبد مأخوذ به ، وهمّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام ، والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل ، كما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : «يقول الله عز وجل : إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشرة أمثالها ، وإذا تحدّث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها » .

قال في «الكشاف » : ويجوز أن يريد بقوله : { وهم بها } شارف أن يهم بها كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله ، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنّه شرع فيه { لولا أن رأى } ، أي : بعين قلبه { برهان ربه } ، أي : الذي آتاه إياه من الحكم والعلم ، أي : لهمّ بها لكنه كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين فلم يهمّ أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله تعالى من القوّة مع كونه في سن الشباب ، فلولا المراقبة لهمّ بها لتوفر الداعي غير أنّ نور الشهود محاها أصلاً ، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه عليه السلام مع أنه الذي تدلّ عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء وأنّ السجن أحب إليه من ذلك مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها : { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } الآية من مطلق الإرادة ومع ما يتحتم من تقدير ما ذكر بعد لولا في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب ، فإنه يجب أن يكون المقدّر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله ، وهذا مثل قوله تعالى : { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } [ القصص ، 10 ] ، أي : لأبدت به ، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك من تفسيرهم بها بأن حل الهيمان وجلس بها مجلس المجامع وبأنه حلّ تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها ، ومن تفسير البرهان بأنه سمع صوتاً : إياك وإياها فلم يكترث له ، فسمعه ثانياً فلم يعمل به ، فسمعه ثالثاً أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته ، وقيل : ضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله ، وقيل : كل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولداً إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ ، وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنا قعد لا ريش له ، وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها : { وإنّ عليكم لحافظين 10 كراماً كاتبين } [ الانفطار ، 10 ، 11 ] فلم ينصرف ثم رأى فيها : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء ، 32 ] فلم ينته ثم رأى فيها { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة ، 281 ] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يدرك الخطيئة ، فانحط جبريل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء ؟ وقيل : رأى تمثال العزيز . وقيل : قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت : أستحي أن يرانا ، فقال يوسف : استحيت مما لا يسمع ولا يبصر ولا أستحي من السميع العليم بذات الصدور ، فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أنّ هذه الأقوال التي وردت عنهم إذا جمعت تناقضت وتكاذبت . قال الزمخشريّ : وهذا ونحوه ممن يورده أهل الجبر والحشو الذين دينهم بهت لله وأنبيائه فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبيّ من أنبياء الله تعالى فيما ذكروه وأهل العدل والتوحيد . ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل وأطال في ردّ ذلك ، وكذا فعل الرازي .

وقيل : وهمّ بها ، أي : بزجرها ووعظها . وقيل : همّ بها ، أي : غمه امتناعه منها . وقيل : همّ بها ، أي : نظر إليها وقيل : همّ بضربها ودفعها . وقيل : هذا كله قبل نبوّته ، وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف عليه السلام ميل شهوة حتى نبأه الله تعالى فألقى عليه هيبة النبوّة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه { كذلك } ، أي : مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر { لنصرف عنه السوء } ، أي : الهمّ بالزنا وغيره { والفحشاء } أي : الزنا وغيره ، وقيل : السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة ، والفحشاء هي الزنا ، فكأنه قيل : لم فعل به هذا ؟ فقيل : { إنه من عبادنا } ، أي : الذين عظمناهم { المخلصين } ، أي : في عبادتنا الذين هم خير صرف لا يخالطهم غش ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام بعد الخاء ، والباقون بالفتح .

قال الرازي : فوروده باسم الفاعل دل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص ، ووروده باسم المفعول يدلّ على أنّ الله تعالى استخلصه واصطفاه لحضرته ، وعلى كلا اللفظين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه وهذا مع قول إبليس : { لأغوينهم أجمعين 39 إلا عبادك منهم المخلصين } [ الحجر : 39 ، 40 ] شهادة من إبليس أنّ يوسف عليه السلام بريء من الهمّ فمن نسبه إلى الهمّ إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته ، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ، قال : ولعلهم يقولون كنا في أوّل الأمر تلامذة إبليس إلا أنا زدنا وفجرنا عليه في السفاهة كما قال الجزوري :

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى *** بي الأمر حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنت أحسن بعده *** طرائق فسق ليس يحسنها بعدي