فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } يقال : همّ بالأمر : إذا قصده وعزم عليه . والمعنى : أنه همّ بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية ، ولم يكن من يوسف عليه السلام القصد إلى ذلك اختياراً كما يفيده ما تقدّم من استعاذته بالله ، وإن ذلك نوع من الظلم . ولما كان الأنبياء معصومين عن الهمّ بالمعصية والقصد إليها شطح أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف ، فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال : كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن ، فلما أتيت على { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } قال : هذا على التقديم والتأخير : كأنه قال : ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها . وقال أحمد بن يحيى ثعلب : أي همت زليخا بالمعصية وكانت مصرّة ، وهمّ يوسف ولم يوقع ما همّ به ، فبين الهمين فرق ، ومن هذا قول الشاعر :

هممت بهم من ثنية لؤلؤ *** شفيت غليلات الهوى من فؤاديا

فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم ، وقيل همّ بها : أي همّ بضربها ، وقيل همّ بها بمعنى تمنى أن يتزوّجها . وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدّمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي ، ويدل على هذا ما سيأتي من قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] ، وقوله : { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء } [ يوسف : 53 ] ومجرد الهمّ لا ينافي العصمة ، فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية ، وذلك المطلوب ، وجواب «لو » في { لَوْلا أَن رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } محذوف : أي لولا أن رأى برهان ربه لفعل ما همّ به .

واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو ؟ فقيل : إن زليخا قامت عند أن همت به وهمّ بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب فقال : ما تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة ، فقال يوسف : أنا أولى أن أستحي من الله تعالى . وقيل : إنه رأى في سقف البيت مكتوباً { وَلاَ تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } الآية ؛ [ الإسراء : 32 ] . وقيل : رأى كفاً مكتوباً عليها { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } [ الانفطار : 10 ] وقيل إن البرهان هو تذكره عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده ؛ وقيل : نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ؟ وقيل : رأى صورة يعقوب على الجدار عاضاً على أنملته يتوعده ؛ وقيل غير ذلك مما يطول ذكره . والحاصل أنه رأى شيئاً حال بينه وبين ما همّ به . قوله : { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء } الكاف نعت مصدر محذوف ، والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول عليها بقوله : { لَوْلا أَن رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك أي : مثل تلك الإراءة أريناه ، أو مثل ذلك التثبيت ثبتناه . { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } أي : كل ما يسوؤه ، والفحشاء كل أمر مفرط القبح . وقيل : السوء : الخيانة للعزيز في أهله ، والفحشاء : الزنا ؛ وقيل : السوء : الشهوة ، والفحشاء : المباشرة ؛ وقيل : السوء : الثناء القبيح . والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولاً أولياً ، وجملة { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } تعليل لما قبله . قرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو «المخلصين » بكسر اللام . وقرأ الآخرون بفتحها . والمعنى على القراءة الأولى : أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله ، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة ، وقد كان عليه السلام مخلصاً مستخلصاً .

/خ29