تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

23

المفردات :

همت به : عزمت وقصدت مخالطته .

وهم بها : نازعته الشهوة لمخالطتها إلا أنه ضبط نفسه ، وتذكر ربه ؛ فامتنع . قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . ( الأعراف : 201 ) .

وهم بها لولا أن

رأى برهان ربه : هنا جواب الشرط محذوف تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، أما هذا البرهان فقيل : إنه رأى جبريل وقيل : رأى يعقوب .

كذلك : أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، وأريناه البرهان .

المخلصين : بفتح اللام أي : الذين أخلصهم الله لطاعته

التفسير :

24 { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ . . . }

كثر كلام المفسرين حول هذه الفقرة وكأنهم أرادوا أن يردوا عن مقام النبوة كل هفوة ؛ من ذلك أن السيد رشيد رضا فسرهّم المرأة هنا : بأنها أرادت ضربه ، حيث أذلها وكسر كبرياءها ؛ فصممت على ضربه ، وهم بها ليمنعها أو يضربها ؛ لولا أن أراه الله برهانا ، ويقينا يدعوه إلى الخروج من المأزق ، والهروب من أمام هذه المرأة ؛ طلبا للنجاة ، وكما أكرمه الله سابقا ، أكرمه بهذا التفكير ؛ ليصرف الله عنه ارتكاب القتل ، وارتكاب الزنا ؛ لأن الله أخلصه وقربه واصطفاه .

وإذا أمعنا النظر في الآية والسياق والأحاديث ؛ وجدنا أن الآية تشير إلى هم امرأة العزيز بيوسف .

والهم نوعان :

الأول : هم بمعنى : القصد والعزم والتصميم على التنفيذ .

والثاني : هم بمعنى حديث النفس ، وهو خطرات النفس ، وفي الحديث : " إن الله غفر لأمتي ما حدثت به نفسها " . 9

وهذا الهم الثاني : حديث النفس ، أو خطرات تعرض للنفس ، ثم يتراجع المؤمن ، ويرى أوامر الله صريحة أو برهان الله واضحا في تحريم الفعل والزنا ؛ فيكون له ثواب الكف عن المحرم ، وتلك محمدة لا مذمة .

وفي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : ( إذا هم عبدي بحسنة ؛ فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها ، وإن هم بسيئة فلم يعملها ؛ فاكتبوها حسنة ؛ فإنما تركها من جرائي ، فإن عملها ؛ فاكتبوها بمثلها ) . 10

وقد ذهب إلى هذا المعنى الزمخشري في تفسير الكشاف والإمام الآلوسي ، والأستاذ محمد فريد وجدي في المصحف المفسر حيث قال :

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } . أي : قصدت مخالطته ، وقصد مخالطتها ، والهم بالشيء ؛ قصده والعزم عليه ، والمراد بهم يوسف : منازعة الشهوة إياه ، لا القصد الاختياري ، وهذا لا يدخل تحت التكليف قط ، بل يثاب المرء على الامتناع عن مجاراته ، وهذا لا يقدح في يوسف ؛ فإنه عام في جميع الناس وإنما يتفاضلون في ضبط نفوسهم ، وكف رعونتها . 11

وقال الإمام الآلوسي :

{ ولقد همت به } . أي : بمخالطته ، والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف .

{ وهم بها } . أي : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية ، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف ، وليس المراد : أنه قصدها قصدا اختياريا ؛ لأن ذلك أمر مذموم . . وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر ، على سبيل المشاكلة لا لشبهة به .

{ لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } . أي : محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله ، والمراد برؤيته لبرهان الله : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . 12 ا ه .

والبرهان الذي رآه يوسف ، هو برهان الله المأخوذ على المكلفين ، من وجوب اجتناب المحارم ، أو حجة الله تعالى في تحريم الزنى ، والعلم بما على الزناة من العقاب . وقيل : هو تطهير نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذميمة .

وقد بالغ بعض المفسرين في تفسير هذا البرهان ، فادّعى بعضهم : أن يوسف سمع هاتفا يقول : يا يوسف ، اسمك ، في ديوان الأنبياء ، وتفعل فعل السفهاء !

وادعى بعضهم : بأن يوسف حل سراويله ، وجلس من زليخا مجلس الخاتن ، ثم رأى زليخا تقوم وتغطي صورة صنم موجود ؛ فقال لزليخا : تستحين من صنم ، ولا أستحي من رب الأرض والسماء ؟ !

وادعى بعضهم : أنه رأى صورة والده يعقوب ، يعض على إصبعه ، ويحذر يوسف ؛ فاستحى يوسف من فعل الفاحشة .

وادعى بعضهم : أنه رأى جبريل عليه السلام يحذره من ارتكاب الفاحشة .

ونقول لهؤلاء ما قاله شيوخنا : لو أن أقل الناس حياء وأكثرهم وقاحة ، رأى أمثال ذلك لخجل وذهبت منه كل رغبة في الشهوة ؛ فأي فضيلة لهذا النبي الكريم ، الذي مدحه الله ، وسجل شهادة بنزاهته ، ثم قالت النسوة عنه : { حاش لله ما علمنا عليه من سوء } . وقالت امرأة العزيز عنه : { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } . كل هذه الشهادات تثبت أن يوسف ، ورجوعه إلى الحق والالتزام ؛ كان سببه يقين داخلي ، ورغبة ذاتية . وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . ( الأعراف : 201 ) .

لقد كان هم يوسف بامرأة العزيز مجرد تفكير في هذا الإغراء ، الذي يزل له عقل البشر ، ثم عصمه الله بالعقل والفكر والتأمل ، والالتجاء إلى الله ، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . ( يوسف : 24 ) .

والبرهان هذا هو المفتاح الذي يفتح أبواب النصر على الإغراء ، والارتقاء على حيل الشيطان ؛ قد يكون تذكر الموت أو القبر أو الحساب أو الآخرة ، أو الأب الرجل الصالح ، أو الملاك جبريل ، وهو يهبط بالوحي ، أو جلال الله وعظمته وهو مطلع وشاهد ، وكلها براهين تنبع من داخل النفس والوجدان والتصور ، لكنها تتجمع كلها على معنى واحد هو : رقابة الله والتزام أمره واجتناب نهيه ؛ لهذا عبر عنها بالمفرد فقال : { لولا أن رءا برهان ربه } . وهو معونة الله للصادقين ، ورعايته للمخلصين ، وعصمته للأنبياء والمرسلين .

{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } .

رجحنا فيما سبق أن الامتناع عن الزنى مع الخطور بالبال ؛ يدل على قوة الوازع ، وقوة الإرادة أكثر من عدم وجوده ، أي : أن يوسف لم يكن عنينا ، ولا حصورا ، وإنما كان بشرا مكتمل الجسم والقوة ، يفكر في هذا الإغراء ، أو يتخيله لأول وهلة ، ثم يعتصم ببرهان الله وتوفيقه .

كما قالت امرأة العزيز للنسوة : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } . أي : طلب العصمة وتمسك بها .

وهنا يقول الله تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } .

أي : جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك ؛ لنصرف عنه دواعي ما أرادت به من السوء ، وما راودته عليه قبله من الفحشاء ؛ بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه ، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين .

رجاء في تفسير الكشاف للزمخشري . 13

{ كَذَلِكَ } . الكاف منصوب المحل أي : مثل ذلك التثبيت ثبتناه .

{ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } . من خيانة السيد .

{ وَالْفَحْشَاء } . من الزنى .

{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . أي : الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم .

ويجوز أن يراد بالسوء : مقدمات الفاحشة من : القبلة ، والنظر بشهوة ، ونحو ذلك .

{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } . أي : من جملة المخلصين ، أو هو ناشئ منهم ؛ لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال الله عنهم : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } . ( ص : 4547 ) .