{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } يعني الهَمُّ بالشيء : حَديث المرء نفسَهُ به ، ولمّا يفعل ذلك . يقول الشاعر :
هممتُ وَلمْ أفعلْ وكِدتُ وليتني *** تركتُ على عثمان تبكي حَلائلهُ
فأما ما كان من همّ يوسف ( عليه السلام ) بالمرأة وهمتها بهِ ، فإنّ أهل العلم ( اختلفوا ) في ذلك ، فروى سفيان بن عُيينة عن عُبيد الله بن أبي يزيد قال : سَمِعتُ ابن عباس سُئِلَ : ما بلغَ من همّ يوسف قال : حَلَّ الهميان وجلس منها مجلس المُجامع .
وروى ابن جريح عن ابن أبي عطية ، قال : سألتُ ابن عباس ( رضي الله عنه ) : ما بلغَ من همّ يوسف ، قال : استلقتْ له على قفاها وقعد بين رجليها لينزع ثيابَهُ .
سعيد بن جُبير : أطلق تكة سراويله ، مُجاهد : حَلَ السراويل حَتّى بلغَ الثفن ، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته .
الضحاك : جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف ، وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتّى جمع بينهما .
قال السَديّ وابن اسحاق : لمّا أرادت امرأة العزيز مُراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر لهُ محاسن نفسه وتُشوّقه إلى نفسها فقالت له : يا يوسف ما أحسن شعرك قال : هو أوّل ما ينتثر من جسدي ، قالت : يا يوسف ما أحسنَ عينك قال : هي أوّل ما تسيلُ إلى الأرض من جسدي ، قالت : ما أحسن وجهك قال : هو للتُراب يأكله ، فلم تزل تُطيعه مرّة وتخيفه أُخرى وتدعوه إلى اللذّة ، وهو شاب مستقبل بجد من شبق الشباب ما يجد الرجل ، وهي حسناء جميلة حتى لانَ لها ممّا يرى من كلفها به ولما يتخوف منها حتى خليا في بعض البيوت وهمَّ بها ، فهذه أقاويل المفسّرين من السلف الصالحين .
وقالت جماعة من المتأخرين : لا يليق هذا بالأنبياء [ : ] فأوّلوا الآية بضروب من التأويل ، وقال بعضهم : وهمَّ بالفرار منها ، وهذا لا يصحّ لأنّ الفرار مذكور وليس له في الآية ذكر ، وقيل : هَمَّ بضربها ودفعها ، وقيل : هَمَّ بمخاصمتها ومرافعتها إلى زوجها ، وقيل : وهَمَّ بها هو كناية عن غير مذكور ، وقيل : تَمَّ الكلام عند قوله : ولقد همّت به ثمّ ابتدأ الخبر عن يوسف وقال : وهمَّ بها .
{ لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } : على التقديم والتأخير تقديرها : لولا أن رأى برهان ربّه لهمَّ بها ولكنّه رأى البرهان فلم يهمّ كقوله :
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ } [ النساء : 83 ]
وهذا فاسدٌ عند أهلِ اللغة لأنّ العرب لا تُقدّم جواب ( لولا ) قبلها ، لا يقول : لقد قمت لولا زيد ، وهو يُريد ، لولا زيد لقمتُ ، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : همّت بيوسف أن يفترشها وهمّ بها يوسف يعني تمنّاها أن تكون له زوجة .
وهذه التأويلات التي حكيناها كلها غير قوّية ولا مُرضية لمخالفتها أقوال القُدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم التأويل ، وهم قد أخذوا عن الذين شهدوا التنزيل .
وكما روي في الخبر الصحيح أنّ يوسف لما دخل على الملك وأقرّت المرأة ، وقال يوسف : { ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } قال له جبرئيل عليه السلام : ولا حين هَمَمت بها يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي } .
وأما أهل الحقائق فإنّهم قالوا في وجه هذه الآية : إنّ الهمّ همّان : همٌّ مُقيمٌ ( ثابت ) وهو إذا كان مع عزيمة وعقد ونيّة ورضى مثل همّ امرأة العزيز فالعهد مأخوذ .
وهمٌّ عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزيمة مثل همّ يوسف ( عليه السلام ) ، والعهد غير مأخوذ ما لم يتكلّم به أو يفعله ، يدلّ عليه ما روي عن ابن ( المبارك ) قال : قلتُ لسفيان : أيؤخذ العهد بالهمّة ؟ قال : إذا كان عزماً أُخذ بها .
وروي عن أبي هُريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عزّ وجل : " إذا همّ عبدي بالحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة ، وإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هَمَّ عبدي بالسيّئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإنْ عملها كتبتها عليه سيّئة واحدة ، فإنْ تركها من أجلي كتبتها له حسنة " " .
والقول بإثبات مثل هذه : الزلاّت والصغائر على الأنبياء ( عليهم السلام ) غير محظور لضرب من الحكمة :
أحدها : ليكونوا من الله تعالى على وجل إذا ذكروها فيجدّون في طاعته إشفاقاً منها ولا يتّكلون على سعة رحمة الله .
والثاني : ليُعرّفهم موقع نعمته وامتنانه عليهم بصرفه عنهم .
والثالث : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك اليأس من عفوه وفضله .
وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد إلاّ يلقى الله عزّ وجل قد هَمّ بخطيئة أو عملها إلاّ يحيى بن زكريا فإنّه لم يهم ولم يعملها " .
وعن مصعب بن عبدالله قال : حدّثني مصعب بن عثمان قال : كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً ، فدخلت عليه امرأة تستفتيه : ( فتأمنته ) بنفسه فامتنع عليها وذكّرها ، فقالت له : إن لم تفعل لأشهّرنَّ بك ولأصيحنَّ بك ، قال : فخرج وتركها ، فرأى في منامه يوسف النبي ( عليه السلام ) ، فقال له : أنت يوسف ؟ قال : أنا يوسف النبي هممتُ وأنت سُليمان الذي لم تَهمّ .
وأمّا البرهان الذي رآه يوسف ( عليه السلام ) فإنّ العلماء اختلفوا فيه ، فأخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى عن أبي العباس الأصمّ عن الحسن بن علي ، عن الحسين بن عطية عن إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد عن ابن عباس { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } قال : مثل له يعقوب فضرب يده في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .
وقال الحسن وسعيد بن جُبير وحميد بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وابن سيرين وأبو صالح وشمر بن عطية والضحّاك : انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضاً على إصبعه .
وقال ابن جبير : فكل ولد يعقوب ولِدَ له اثنا عشر ولداً إلاّ يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل نقص من شهوته حين رأى صورة أبيه فاستحياهُ .
قُتادة : رأى صورة يعقوب فقال : يا يوسف تعمل عمل السُّفهاء وأنت مكتوبٌ من الأنبياء ؟ ابن أبي مليكه : عن ابن عباس قال : نودي : يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له ؟ السدّي : نودي يا يوسف تواقعها ؟ إنّما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يُطلق ، ومثلُكَ إنْ واقعتها مثل [ الطير ] إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يُعمل عليه ، ومثلك إنْ واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه ، فلا يستطع أن يدفع عنه نفسه .
أبو مردود عن محمّد بن كعب القرضي : قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همّ فرأى كتاباً في حائط البيت
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ]
. أبو معشر عنه : لولا ما رأى بالقرآن من تعظيم الزنا وتحريمه ، وزاد القرضي : بالقرآن وصحف إبراهيم ( عليه السلام ) .
ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } قال : حَلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكفّ قد مُدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها :
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الإنفطار : 10-12 ] .
قال : فقام هارباً وقامت ، فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد ، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدّتْ فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ البقرة : 281 ] ، فقام هارباً وقامت فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد ، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته ، قال الله تعالى لجبريل ( عليه السلام ) : يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يُصيب الخطيئة ، فرأى جبريل عاضّاً على أصبعه أو كفّه وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء ؟ فذلك قوله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ } .
قتادة عن عطية عن وهب بن مُنبه ، إنّه قال : لمّا همّ يوسف وامرأة العزيز بما همّا خرجت كفّ بلا جسد بينهما مكتوبٌ عليها بالعبرانية
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] ثُمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما ، ثُمّ رجعت الكفّ بينهما مكتوبٌ عليها بالعبرانية
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الإنفطار : 10-12 ] ، ثمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما ، فعادت الكفّ بالعبرانية مكتوب عليها :
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] فانصرفت الكفّ وقاما مقامهما ، فعادت الكفّ رابعة مكتوبٌ عليها بالعبرانية :
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } [ البقرة : 281 ] فولّى يوسف هارباً .
وروى عطية عن ابن عباس ، أنّ البرهان الذي رآه يوسف أنّه أُرِيَ تمثال الملك ، وروى عمر بن اسحاق عن بعض أهل العلم أنّه قطفير سيّده حين دنا من الباب في ذلك الحين ، إنّه لما هرب منها واتّبعته ألفاه لدى الباب .
روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر الصادق ج قال : حدّثني أبي عن أبيه علي ابن الحسين ، في قوله تعالى : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } قال : قامت امرأة العزيز إلى الصنم فاظلت دونه بثوب فقال لها يوسف : ما هذا ؟ فقالت : أستحيي من الصنم أن يرانا ، فقال يوسف : أتستحيين ممَّن لا يسمع ولا يُبصر ولا يفقه ولا يشهد ولا أستحيي ممّن خلق الأشياء وعلّمها ؟
وقال جعفر بن محمد : البرهان النبوّة التي : أودع الله صدره هي التي حالت بينه وبين ما يسخط الله .
وقيل : هو ما آتاه الله من العلم والحكمة ، وقال أهل الإشارة : إنّ المؤمن له بُرهان من ربّه في سرّه من معرفته فرأى ذلك البُرهان وهو زاجره .
فالبرهان الآية والحجّة ، وجواب ( لولا ) محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربّه لزنا ، وحقّق الهمّة الغريزية بهمّة الكسب ، لقوله تعالى :
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [ النور : 10 ] [ النور : 20 ]
{ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [ النور : 10 ]
{ وأَنّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيْم } [ النور : 20 ] مجازه لهلكتم ، وقال امرؤ القيس :
فلو أنّها نفس تموت سوية *** ولكنّها نفسٌ تساقط أنفسنا
أراد [ بسقطت ] فنيت ولهان عليَّ ، ونحوها .
قال الله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الإثم { وَالْفَحْشَآءَ } الزنا .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } قرأ أهل مكّة والبصرة بكسر اللام أي المُخلِصين التوحيد والعبادة لله ، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي المختارين للنبوّة ، دليلها قوله
{ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ } [ ص : 46 ] . وروى الزهري عن حمزة بن عبيدالله بن عمران بن عمر قال : قال : " لمّا اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم الألم الذي توفّي فيه ، قال صلى الله عليه وسلم : يصلّي بالناس أبو بكر " ، قالت عائشة : يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق ، وإنّه لا يملك نفسه حين يقرأ القُرآن ، فَمُره عمر يصلّي بالناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلّي بالناس أبو بكر " فراجعته ، فقال " ليصلِّ بالناس أبو بكر فإنّكن صويحبات يوسف " ، قالت عائشة : والله ما حملني في ذلك الأمر عليهم أن يكون أوّل رجل قام مقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبدالله بن محمد بن شيبة قال : حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال : حدّثنا بعض أصحابنا قال : قال جعفر بن سليمان : سمعتُ امرأة في بعض الطرق وهي تتكلّم ببعض الرفث فقلت لها [ . . . . ] إنّكن صويحبات يوسف ، فقالت له المرأة : واعجباً نحنُ دعوناه إلى اللذّة ، وأنتم أردتم قتله ، فمن أصحابه نحن أو أنتم ، وقتل النفس أعظم ممّا أردناه ؟