وقوله سبحانه : { وَهَمَّ بِهَا } [ يوسف :24 ] .
قال ( ع ) : والذي أقولُ به في هذه الآية : أَنَّ كَوْنَ يوسُفَ عليه السلام نبيًّا في وقت هذه النازلة لم يصحَّ ، ولا تظاهَرَتْ به روايةٌ ، فإِذا كان ذلك ، فهو مؤمنٌ قد أوتِيَ حكماً وعلماً ، ويجوز عَلَيْه الهَمُّ الذي هو إِرادةُ الشيْءِ دون مواقَعَتِهِ ، وأنْ يستصحب الخَاطِرَ الرديءَ ؛ علَى ما في ذلك من الخطيئة ، وإِن فرضْنَاه نبيًّا في ذلك الوقْتِ ، فلا يجوز عليه عندي إِلاَّ الهَمُّ الذي هو الخاطرُ ، ولا يصحُّ عندي شيْءٌ مما ذكر من حَلِّ تِكَّةٍ ، ونحوِ ذلك ؛ لأنَّ العِصْمة مع النبوءة ، وللَهمِّ بالشيْءِ مرتبتانِ ، فالخاطرُ المجرَّد دون استصحاب يجوزُ عليه ، ومع استصحابِ لا يَجُوزُ عليه ؛ إِذ الإِجماع منعقدٌ أَنَّ الهمَّ بالمعصية واستصحابَ التلذُّذ بها غير جائزٍ ، ولا داخِلٍ في التجاوُزِ .
( ت ) : قال عياضٌ : والصحيحُ إِن شاء اللَّه تنزيهُهُمْ أيضاً قبل النبوءة مِنْ كُلِّ عيْبٍ ، وعصمتُهُم مِنْ كُلِّ ما يوجبُ الرَّيْب ، ثم قال عياضٌ بعد هذا : وأما قولُ اللَّه سبحانه : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، فعلى طريق كثيرٍ من الفقَهَاء والمحدِّثين ؛ أنَّ همَّ النفْس لا يؤاخذ به ، وليس بسيِّئة ، لقوله عليه السلام عن ربِّه :
( إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ ) ؛ فَلاَ مَعْصِيَةَ في همه إِذَنْ ، وأما علَى مذهب المحقِّقين من الفقهاء والمتكلِّمين ، فإِن الهمَّ إِذا وُطِّنَتْ عليه النفْسُ سيئةٌ ، وأَما ما لم توطَّن عليه النفس مِنْ همومها وخواطرها ، فهو المعفوُّ عنه ، وهذا هو الحقُّ ، فيكون إِن شاء اللَّه هَمُّ يوسُفَ من هذا ، ويكونُ قوله : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } [ يوسف : 53 ] ، أي : مِن هذا الهَمِّ ، أو يكون ذلك مِنْهُ على طريق التواضُع . انتهى .
واختلف في البُرْهَان الذي رآه يوسُفُ ، فقيل : ناداه جبريلُ : يا يوسُفُ ، تَكُونُ في ديوانِ الأنبياءِ ، وتفعلُ فِعْلَ السفهاءِ ، وقيل : رأَى يعقوبَ عَاضًّا علَى إِبهامه ، وقيل غير هذا ، وقيل : بل كان البرهَانُ فِكْرَتَهُ في عذابِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ على المعصية ، والبرهانُ في كلام العرب : الشيء الذي يُعْطِي القطْعِ واليَقِينَ ، كان مما يَعلَمُ ضرورةً أو بخبرٍ قطعيٍّ أو بقياسٍ نظريٍّ «وأنْ » في قوله : { لَوْلا أَن رَّأَى } في موضع رفعٍ ، تقديره : لولا رؤيته برهانَ رَبِّه ، لَفَعَلَ ، وذَهَبَ قومٌ إِلى أَنَّ الكلامَ تَمَّ في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ، وأن جواب «لولا » في قوله : { وَهَمَّ بِهَا } ، وأن المعنى : لولا أنْ رأَى البرهان لَهَمَّ ، أي : فلم يهمَّ عليه السلام ، وهذا قولٌ يردُّه لسانُ العربِ ، وأقوالُ السلَفِ .
( ت ) : وقد ساقَ عيَاضٌ هذا القولَ مساق الاحتجاج به متَّصلاً بما نقَلْناه عنْه آنفاً ، ولفظه : فكيف ، وقَدْ حكَى أبو حاتمٍ عن أبي عُبَيْدة ، أن يوسف لم يَهِمَّ ، وأنَّ الكلام فيه تقديمٌ وتأخير ، أي : ولقد همَّتْ به ، ولولا أنْ رأَى برهانَ ربه لَهَمَّ بها ، وقد قال اللَّه تعالى عن المرأة : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم } [ يوسف : 32 ] وقال تعالى : { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء } [ يوسف : 24 ] . وقال : { مَعَاذَ الله } الآية ، انتهى .
وكذا نقله الداودي ولفظه : وقد قال سعيدُ بْنَ الحَدَّاد : في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، ومعناه : أنه لولا أنْ رأَى برهان ربِّه لَهَمَّ بها ، فلمَّا رأى البرهان لم يَهِمَّ ، انتهى .
قال ابن العربيِّ في «أَحكامه » : وقد أخبر اللَّه سبحانه عن حالِ يوسُفَ من حين بلوغه بأنه آتاه حكماً وعلماً ، والحُكْم : هو العمل بالعلم ، وكلامُ اللَّه صادِقٌ ، وخبره صحيحٌ ، ووصفه حَقٌّ ، فقد عَمِلَ يوسُفُ بما عَلَّمه اللَّه من تحريم الزنا ، وتحريم خيانةِ السيِّد في أهْله ، فما تعرَّض لامرأةِ العزيز ، ولا أناب إِلى المُرَاودة ، بل أَدْبَرَ عنها ، وَفَّر منها ؛ حِكْمَةٌ خُصَّ بها ، وعملٌ بما علَّمه اللَّه تعالى ، وهذا يطمس وُجُوهَ الجَهَلَةِ مِنَ النَّاس والغَفَلَةِ من العلماءِ في نسْبتهم إِلى الصِّدِّيقِ ما لا يليقُ ، وأقلُّ ما اقتحموا مِنْ ذلك هَتْكُ السراويلِ ، والهَمُّ بالفَتْكِ فيما رَأَوْهُ من تأويلٍ ، وحاشاه من ذلك ، فما لهؤلاء المفسِّرين لا يكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ؛ يقولون : فَعَلَ فَعَلَ ، واللَّه تعالى إِنما قال { هَمَّ بها } ، قال علماء الصوفيَّة : إِن فائدة قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } [ يوسف : 22 ] أن اللَّه عزَّ وجلَّ أعطاه العلْمَ والحكْمة بأن غلب الشهوة ليكون ذلك سبباً للعصْمَة ، انتهى .
والكافُ من قوله تعالى : { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } [ يوسف : 24 ] متعلِّقةٌ بمضمرٍ ، تقديره : جَرَتْ أفعالنا وأقدارنا كذلك ؛ لنصرفَ ، ويصحُّ أن تكون الكافُ في موضِعِ رفعٍ بتقديرِ عصمَتَنا له كَذَلك ، وقرأ ابن كثير وغيره : «المُخْلِصِينَ » بكسر اللام في سائر القرآن ، ونافع وغيره بفَتْحها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.