غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

21

قوله سبحانه { ولقد همت به وهمّ بها } لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم ، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين : إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة . وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع . وعنه أيضاً أنها استقلت له وقعد هو بين شعبها الأربع . وروي أن يوسف حين قال : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبرائيل : ولا حين هممت يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك { وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } وقال آخرون : إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين . أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زاويا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف : ولم ؟ فقالت : أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية . فقال يوسف : تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعل ذلك أبداً . وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضاً فوه على أصابعه قائلاً : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء ؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين . وقال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له . وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها { وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين } { الإنفطار :11 ، 12 ] فلم ينصرف ثم رأى فيها { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء :32 ] فلم ينته ثم رأى فيها { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة . فانحط لجبرائيل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان زمرة الأنبياء ؟ وقيل : رأى تمثال العزيز . وأما الآخرون فما سلموا شيئاً من هذه الروايات . وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية ، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذه الزواجر تكميلاً للألطاف وتتميماً للعناية . قالوا : ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة . قالوا : والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني ، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هارباً عنها . وفي قوله : { وهمّ بها } فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله : { هي راودتني } وبقوله : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وقالت { الآن حصحص الحق } وزوج المرأة صدّقه فقال : { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال : { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك { لنصرف عنه السوء } خيانة السيد { والفحشاء } الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك . ثم أكد الشهادة بقوله : { إنه من عبادنا } والإضافة للتشريف كقوله : { وعباد الرحمن }

[ الفرقان : 63 ] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص ، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها .

ويحتمل أن يكون " من " للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشيء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام . فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب ، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور .

/خ35