قوله تعالى : { وذا النون } أي : اذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى { إذ ذهب مغاضباً } اختلفوا في معناه . فقال الضحاك : مغاضباً لقومه ، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس ، قال : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطاً ونصف ، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي معه في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال له الملك : فمن ترى ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال يونس : إنه قوي أمين فدعا الملك بيونس فأمره أن يخرج ، فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي . قال : لا ، قال : فهل سماني لك ؟ قال : لا ، قال : فها هنا غيري أنبياء أقوياء ، فألحوا عليه فخرج من بينهم مغاضباً للنبي وللملك ، ولقومه فأتى بحر الروم فركبه . وقال عروة بن الزبير و سعيد بن جبير وجماعة : ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعدما أوعدهم ، وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف ، فيما أوعدهم ، واستحيا منهم ، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب ، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده ، وأنه يسمى كذاباً لا كراهية لحكم الله تعالى . وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد ، فغضب ، والمغاضبة ها هنا من المفاعلة التي تكون من واحد ، كالمسافرة والمعاقبة ، فمعنى قوله مغاضباً أي غضبان . وقال الحسن : إنما غاضب ربه عز وجل من أجل أنه أمره بالمسير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه ، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم ، فقيل له إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأل أن ينظر إلا أن يأخذ نعلاً يلبسها فلم ينظر ، وكان في خلقه ضيق فذهب مغاضباً . وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، فقال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب فانطلق إلى السفينة . وقال وهب بن منبه : إن يونس ابن متى كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل فقذفها بين يده ، وخرج هارباً منها ، فلذلك أخرجه الله من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تكن كصاحب الحوت } قوله { فظن أن لن نقدر عليه } أي لن نقضي بالعقوبة ، قاله مجاهد وقتادة والضحاك و الكلبي ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس يقال : قدر الله الشيء تقديراً وقدر يقدر قدراً بمعنى واحد ، ومنه قوله : { نحن قدرنا بينكم الموت }في قراءة من خففها دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري ، فظن أن لن نقدر عليه بالتشديد ، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه : فظن أن لن نضيق عليه الحبس ، كقوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يضيق . وقال ابن زيد : هو استفهام معناه : فظن أنه يعجز ربه ، فلا يقدر عليه . وقرأ يعقوب يقدر بضم الياء على المجهول خفيف . وعن الحسن قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه واستزله للشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه ، وكان له سلف وعبادة فأبي الله أن يدعه للشيطان ، فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة . وقال عطاء : سبعة أيام وقيل : ثلاثة أيام . وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة . وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه تعالى في بطن الحوت ، وراجع نفسه فقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، حين عصيتك وما صنعت من شيء فلن أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته ، والتأويلات المتقدمة أولى بحال الأنبياء أنه ذهب مغاضباً لقومه أو للملك ، { فنادى في الظلمات } أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } يعني : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت .
وروي عن أبي هريرة مرفوعاً : أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً ، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه ما هذا ؟ فأوحى الله إليه : إن هذا تسبيح دواب البحر ، قال : فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه ، فقالوا : يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة ، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول ، فقال : ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم فشفعوا له ، عند ذلك فأمر الحوت فقذفه إلي الساحل كما قال الله تعالى : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم }
ثم تجيء قصة يونس - عليه السلام - وهو ذو النون .
( وذا النون إذ ذهب مغاضبا . فظن أن لن نقدر عليه . فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم . وكذلك ننجي المؤمنين ) . .
وقصة يونس تأتي هنا في صورة إشارة سريعة مراعاة للتناسق في السياق ، وتفصل في سورة الصافات . ولكن لا بد لنا من بعض التفصيل هنا لهذه الإشارة كي تكون مفهومة .
لقد سمي ذا النون - أي صاحب الحوت - لأن الحوت التقمه ثم نبذه . وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدرا ، وغادرهم مغاضبا ، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم . ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة ، والقرى كثيرة ، والأقوام متعددون . وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين .
ذلك معنى ( فظن أن لن نقدر عليه )أي أن لن نضيق عليه .
وقاده غضبه الجامح ، وضيقه الخانق ، إلى شاطئ البحر ، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها . حتى إذا كانت في اللجة ثقلت ، وقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق . فساهموا فجاء السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو بنفسه . فالتقمه الحوت . مضيقا عليه أشد الضيق ! فلما كان في الظلمات : ظلمة جوف الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل نادى : ( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) . فاستجاب الله دعاءه ، ونجاه من الغم الذي هو فيه . ولفظه الحوت على الساحل . ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات . فحسبنا هذا في هذا السياق .
إن في هذه الحلقة من قصة يونس - عليه السلام - لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات .
إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة ، فضاق صدرا بالقوم ، وألقى عبء الدعوة ، وذهب مغاضبا ، ضيق الصدر ، حرج النفس ؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين . ولولا أن ثاب إلى ربه ! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه . لما فرج الله عنه هذا الضيق . ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه .
وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها ، وأن يصبروا على التكذيب بها ، والإيذاء من أجلها . وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا . ولكنه بعض تكاليف الرسالة . فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا . ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا .
إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب ، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ، ومن عتو وجحود . فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب ، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة . . وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف . . ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب !
إن طريق الدعوات ليس هينا لينا . واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة . فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات ، والنظم والأوضاع ، يجثم على القلوب . ولا بد من إزالة هذا الركام . ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة . ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة . ومن محاولة العثور على العصب الموصل . . وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء . ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها . وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة ، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود ، وقد أعيا من قبل على كل الجهود !
وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال . . إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهابا وإيابا فتخطى ء المحطة وأنت تدقق وتصوب . ثم إذا حركة عابرة من يدك . فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام !
إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال . وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق . ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال !
إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته ، فيهجر الناس . . إنه عمل مريح ، قد يفثأ الغضب ، ويهدى ء الأعصاب . . ولكن أين هي الدعوة ? وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين ? !
إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية ! فليضق صدره . ولكن ليكظم ويمض . وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون !
إن الداعية أداة في يد القدرة . والله أرعى لدعوته وأحفظ . فليؤد هو واجبه في كل ظرف ، وفي كل جو ، والبقية على الله . والهدى هدى الله .
وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه .
وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها .
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة " الصافات " وفي سورة " ن " {[19801]} وذلك أن يونس بن مَتَّى ، عليه السلام ، بعثه الله إلى أهل قرية " نينوى " ، وهي قرية من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث . فلما تحققوا منه ذلك ، وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل ، وجأروا{[19802]} إليه ، ورغت الإبل وفُضْلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وحُمْلانها ، فرفع الله عنهم العذاب ، قال الله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ{[19803]} الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
وأما يونس ، عليه السلام ، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم ، وخافوا أن يغرقوا{[19804]} . فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس ، فأبوا{[19805]} أن يلقوه ، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا ، فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا ، قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] ، أي : وقعت عليه القرعة{[19806]} ، فقام يونس ، عليه السلام ، وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتًا يشق البحار ، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا ، ولا تهشم له عظما ؛ فإن يونس ليس لك رزقا ، وإنما بطنك له يكون سجنًا .
وقوله : { وَذَا النُّونِ } يعني : الحوت ، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة .
وقوله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك : لقومه ، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [ أي : نضيق عليه في بطن الحوت . يُروَى نحو هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وغيرهم ، واختاره{[19807]} ابن جرير ، واستشهد عليه بقوله تعالى : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق : 7 ] .
وقال عطية العَوفي : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } {[19808]} ، أي : نقضي عليه ، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير ، فإن العرب تقول : قدَر وقَدّر بمعنى واحد ، وقال الشاعر :
فَلا عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى *** تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ ، فَلَكَ الأمْرُ
ومنه قوله تعالى : { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] ، أي : قدر .
وقوله : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل . وكذا روي عن ابن عباس{[19809]} ، وعمرو بن ميمون ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة .
وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمةُ حُوت في بطن حوت{[19810]} ، في ظلمة البحر .
قال ابن مسعود ، وابنُ عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها ، حتى انتهى به إلى قرار البحر ، فسمع{[19811]} يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالكَ قال : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف : لما صار يونس في بطن الحوت ، ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى : يا رب{[19812]} ، اتخذت لك مسجدًا{[19813]} في موضع ما اتخذه{[19814]} أحد .
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يومًا . رواهما{[19815]} ابن جبير .
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - سمعتُ أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أراد الله حَبْسَ يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حسًا ، فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه ، وهو في بطن{[19816]} الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر . قال : فَسَبَّح وهو في بطن الحوت ، فسمع{[19817]} الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [ بأرض غريبة ]{[19818]} قال : ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح ؟ . قال : نعم " . قال : " فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال الله عز وجل :{[19819]} { وَهُوَ سَقِيمٌ } [ الصافات : 145 ] .
ورواه ابن جرير{[19820]} ، ورواه البزار في مسنده ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد{[19821]} ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سَلمَة{[19822]}
عن علي مرفوعًا : لا ينبغي لعبد أن يقول : " أنا{[19823]} خير من يونس بن متى " ؛ سبح لله في الظلمات{[19824]} .
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة ، من حديث ابن عباس ، وابن مسعود ، وعبد الله بن جعفر ، وسيأتي أسانيدها في سورة " ن " {[19825]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي : حدثني أبو صخر : أن يزيد الرقاشي حدثه قال : سمعت أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يونس النبي ، عليه السلام ، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت ، قال : " اللهم ، لا إله إلا أنت ، سبحانك ، إني كنت من الظالمين " . فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش{[19826]} ، فقالت الملائكة : يا رب ، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ؟ فقال : أما تعرفون ذاك{[19827]} ؟ قالوا : لا يا رب{[19828]} ، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس . قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل{[19829]} ، ودعوة مجابة ؟ . [ قال : نعم ]{[19830]} . قالوا : يا رب ، أَوَلا{[19831]} ترحم ما كان يصنع{[19832]} في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى . فأمر الحوت فطرحه في العراء{[19833]} .
التقدير واذكر «ذا النون » والنون الحوت وصاحبه يونس بن متَّى عليه السلام ، ونسب إلى الحوت الذي التقمه على الحالة التي يأتي ذكرها في موضعها الذي يقتضيه وهو نبي من أهل نينوى وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب »{[8257]} ، وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »{[8258]} ، وهذا الحديث وقوله «لا تفضلوني على موسى »{[8259]} يتوهم أنها يعارضان قوله عليه السلام على المنبر «أنا سيد ولد آدم ولا فخر »{[8260]} والانفصال عن هذا بوجهين أحدهما ذكره الناس وهو أن يكون قوله «أنا سيد ولد آدم » متأخراً في التاريخ وأنها منزلة أعلمه الله تعالى بها لم يكن علمها وقت تلك المقالات الأخر ، والوجه الثاني وهو عندي أحرى مع حال النبي عليه السلام ، أنه إنما نهي عن التفضيل بين شخصين مذكورين وذهب مذهب التواضع ولم يزل سيد ولد آدم ولكنه نهى أن يفضل على موسى كراهية أن تغضب لذلك اليهود فيزيد نفارها عن الإيمان ، وسبب الحديث يقتضي هذا ، وذلك أن يهودياً قال لا والذي فضل موسى على العالمين ، فقال له رجل من الأنصار تقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولطمه فشري الأمر وارتفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن تفضيله على موسى ونهى عليه السلام عن تفضيله على يونس لئلا يظن أحد بيونس نقص فضيلة بسبب ما وقع له ، فنهيه عليه السلام عن التفضيل على شخص معين وقوله في حديث ثالث «لا تفضلوا بين الأنبياء »{[8261]} وهذا كله مع قوله : «أنا سيد ولد آدم » وإطلاق الفضل له دون اقتران بأحد ، بين صحيح وتأمل هذا ، فإنه يلوح وقد قال عمر رضي الله عنه للحطيئة امدح ممدوحك ولا تفضل بعض الناس على بعض .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة سيد ولفظة خير شيئان ، فهذا مبدأ جمع آخر بين الأحاديث يذهب ما يظن من التعارض ، وقوله { مغاضباً } قيل إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فاراً بنفسه وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم فكان ذنبه في مخالفة هذا الأمر ، وروي أنه كان شاباً فلم يحمل أثقال النبوءة وتفسخ تحتها كما يتفسخ الربع{[8262]} تحت الحمل ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم { ولا تكن كصاحب الحوت }{[8263]} [ القلم : 48 ] أي اصبر ودم على الشقاء بقومك ، وقالت فرقة إنما غاضب الملك الذي كان على قومه ع وهذا نحو من الأول فيما يلحق منه يونس عليه السلام ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره إنما ذهب { مغاضباً } ربه واستفزه إبليس{[8264]} ، ورووا في ذلك أن يونس لما طال عليه أمر قومه طلب من الله تعالى عذابهم فقيل له إن العذاب يجيئهم يوم كذا ، فأخبرهم يونس بذلك فقالوا إن رحل عنا فالعذاب نازل وإن أقام بيننا لم نبال ، فلما كان سحر ذلك اليوم قام يونس فرجل فأيقنوا بالعذاب فخرجوا بأجمعهم إلى البراز{[8265]} ، وفرقوا بين صغار البهائم وأمهاتها وتضرعوا وتابوا ، فرفع الله تعالى عنهم العذاب وبقي يونس في موضعه الذي خرج إليه فنظر فلما عرف أَنهم لم يعذبوا ساءه أن عدوه كاذباً وقال والله لا انصرفت إليهم أَبداً .
وروي أنه كان من دينهم قتل الكذاب فغضب حينئذ على ربه وخرج على وجهه حتى دخل في سفينة في البحر ع وفي هذا القول من الضعف ما لا خفاء به مما لا يتصف به نبي ، واختلف الناس في قوله تعالى : { فظن أَن لن نقدر عليه } فقالت فرقة : استفزه إبليس ووقع في ظنه إمكان أن لا يقدر الله عليه بمعاقبة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :وهذا قول مردود ، وقالت فرقة ظن أَن لن يضيق عليه في مذهبه من قوله تعالى : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر }{[8266]} [ الإسراء : 30 ] ، وقالت فرقة هو من القدر ، أي ظن أن لن يقدر الله عليه بعقوبة{[8267]} ، وقالت فرقة الكلام بمعنى الاستفهام ، أَي : أفظن أن لن يقدر الله عليه ؟ ، وحكى منذر بن سعيد أَن بعضهم قرأ «أفظن » بالألف ، وقرأ الزهري «تُقَدّر » بضم النون وفتح القاف وشد الدال{[8268]} ، وقرأ الحسن «يقدر » وعنه أَيضاً «نقدر »{[8269]} ، وبعد هذا الكلام حذف كثير أقتضب لبيانه في غير هذه الآية ، المعنى فدخل البحر وكذا حتى التقمه الحوت وصار في ظلمة جوفه ، واختلف الناس في جمع { الظلمات } ما المراد به فقالت فرقة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت ، وقالت فرقة ظلمة البحر وظلمة الحوت التقم الحوت الأول الذي التقم يونس .
قال أبو محمد رحمه الله :ويصح أن يعبر ب { الظلمات } عن جوف الحوت الأول فقط كما قال في غيابات الجب{[8270]} وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ ، وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر ثم قال في دعائه «اللهم إني قد اتخذت لك مسجداً في موضع لم يتخذه أحد من قبلي » و { أن } مفسرة نحو قوله تعالى { أن امشوا }{[8271]} [ ص : 6 ] وفي هذا نظر وقوله تعالى : { من الظالمين } يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم هذا أحسن الوجوه وقد تقدم ذكر غيره .