قوله تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } . أي طلب رضا الله تعالى .
قوله تعالى : { وتثبيتاً من أنفسهم } . قال قتادة : احتساباً ، وقال الشعبي والكلبي : تصديقاً من أنفسهم ، أي يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله ، يعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا ، وقيل : على يقين بإخلاف الله عليهم . وقال عطاء ومجاهد : يثبتون أي يضعون أموالهم .
قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان لله أمضى ، وإن كان يخالطه شك أمسك ، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت ، كقوله تعالى : " وتبتل إليه تبتيلاً " أي تبتل .
قوله تعالى : { كمثل جنة } . أي بستان قال المبرد والفراء : إذا كان في البستان نخل فهو جنة ، وإن كان فيه كرم فهو فردوس .
قوله تعالى : { بربوة } . قرأ ابن عامر وعاصم ، بربوة وإلى ربوة في سورة المؤمنين بفتح الراء ، وقرأ الآخرون بضمها ، وهي المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار فلا يعلوه الماء ، ولا يعلو عن الماء ، وإنما جعلها بربوة لأن النبات عليها أحسن وأزكى .
قوله تعالى : { أصابها وابل } . مطر شديد كثير .
قوله تعالى : { فآتت أكلها } . ثمرها ، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتثقيل ، وزاد نافع وابن كثير تخفيف أكلها والأكل ، وخفف أبو عمرو ورسلنا ورسلكم ورسلهم وسبلنا .
قوله تعالى : { ضعفين } . أي أضعفت في الحمل . قال عطاء : حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين ، وقال عكرمة : حملت في السنة مرتين .
قوله تعالى : { فإن لم يصبها وابل فطل } . أي فطش ، وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائماً . قال السدي : هو الندى ، وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول : كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف ، سواء قل المطر أو كثر ، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت ، وذلك أن الطل إذا كان يدوم عمل الوابل الشديد .
أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد . . فقلب عامر بالإيمان ، ندي ببشاشته . ينفق ماله ( ابتغاء مرضاة الله ) . . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير . . وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثله جنة . جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان . جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب ! ليكون المنظر متناسق الأشكال ! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . .
( أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ) . .
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو :
( فإن لم يصبها وابل ) . . غزير . . ( فطل ) من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل !
إنه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسق الجزئيات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة ، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب . .
ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب ، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر ، جاء التعقيب لمسة للقلوب :
وهذا مثل المؤمنين المنفقين { أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه } عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، ونظير هذا في المعنى ، قوله عليه السلام{[4436]} في الحديث المتفق على صحته : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا . . . " أي : يؤمن أن الله شرعه ، ويحتسب عند الله ثوابه .
قال الشعبي : { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : تصديقا ويقينا{[4437]} . وكذا قال قتادة ، وأبو صالح ، وابن زيد . واختاره ابن جرير . وقال مجاهد والحسن : أي : يتثبتون أين يضعون{[4438]} صدقاتهم .
وقوله : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي : كمثل بستان بربوة . وهو عند الجمهور : المكان المرتفع المستوي من الأرض . وزاد ابن عباس والضحاك : وتجري فيه الأنهار .
قال ابن جرير : وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات : بضم الراء ، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق . وفتحها ، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ، ويقال : إنها لغة تميم . وكسر الراء ، ويذكر أنها قراءة ابن عباس .
وقوله : { أَصَابَهَا{[4439]} وَابِلٌ } وهو المطر الشديد ، كما تقدم ، { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي : ثمرتها{[4440]} { ضِعْفَيْن } أي : بالنسبة إلى غيرها من الجنان . { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } قال الضحاك : هو الرَّذَاذ ، وهو اللين من المطر . أي : هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا ؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل ، وأيا ما كان فهو كفايتها ، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا ، بل يتقبله الله ويكثره وينميه ، كل عامل بحسبه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء .
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم } وتثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان ، فإن المال شقيق الروح ، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها ، أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم ، وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال . { كمثل جنة بربوة } أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة ، كمثل بستان بموضع مرتفع ، فإن شجرة يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا . وقرأ ابن عامر وعاصم { بربوة } بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها . { أصابها وابل } مطر عظيم القطر . { فآتت أكلها } ثمرتها . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالسكون للتخفيف . { ضعفين } مثلي ما كنت تثمر بسبب الوابل . والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى : { من كل زوجين اثنين } وقيل : أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفا . { فإن لم يصبها وابل فطل } أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل ، أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها . وهو المطر الصغير القطر ، والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله ، ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل . { والله بما تعملون بصير } تحذير عن الرئاء وترغيب في الإخلاص .
عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مَثَل الذي ينفق ماله رئاء الناس ، لزيادة بيان ما بين المرتبتين مِن البَوْن وتأكيداً للثناء على المنفقين بإخلاص ، وتفنّناً في التمثيل . فإنّه قد مثَّله فيما سلف بحبَّة أنبتت سبع سنابل ، ومثّله فيما سلف تمثيلاً غير كثيرِ التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب ، فلما مَثَّل حال المنفق رِئاءً بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيُّل ؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيباً وضمّنت الهيأة المشبّه بها أحوالاً حسنة تكسبها حُسناً ليسري ذلك التحسين إلى المشبَّه ، وهذا من جملة مقاصد التشبيه .
وانتصب { ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً } على الحال بتأويل المصدر بالوصف ، أي مبتغين مرضاة الله ومثَبِّتين من أنفسهم . ولا يحسن نصبهما على المفعول له ، أما قوله « ابتغاء » فلأن مفاد الابتغاء هو مفاد اللام التي ينتصب المفعول لأجله بإضمارها ، لأنّ يؤول إلى معنى لأجل طلبهم مرضاة الله ، وأما قوله « وتثبيتاً » فلأنّ حكمَهُ حكم ما عطف هو عليه .
والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه ، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكّك والتردّد ، أي أنّهم يمنعون أنفسهم من التردّد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتْركون مجالاً لخواطر الشحّ ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردّد ولم ينكص ، فإنّ إراضة النفس على فعل ما يشُق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدناً .
وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأنّ المال ليس أمراً هيناً على النفس ، وتكون « من » على هذا الوجه للتبعيض ، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال ، أي تثبيتاً لبعض أحوال النفس .
وموقع ( من ) هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلّق الفعل ، بحَيْث لا يطلب تسلّط الفعل على جميع ذات المفعول بل يُكتفى ببعض المفعول ، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله ، وظاهر كلام « الكشاف » يقتضي أنّه جعل التبعيض فيها حقيقياً .
ويجوز أن يكون تثبيتاً تمثيلاً للتصديق أي تصديقاً لوعد الله وإخلاصاً في الدين ليخالف حال المنافقين ؛ فإنّ امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلاّ عن تصديق للآمر بها ، أي يدُلُّون على تثبيت من أنفسهم .
و ( مِنْ ) على هذا الوجه ابتدائية ، أي تصديقاً صادراً من أنفسهم .
ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر ، وهو ما تقرر في الحكمة الخُلُقية أن تكرّر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس ، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها ، وبلا كلفة ولا ضجر . فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر ، والذي يأتي تلك المأمورات يثبِّت نفسه بأخلاق الإيمان ، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحْريضاً على تكرير الإنفاق .
ومُثِّل هذا الإنفاق بجنّة بربوة إلخ ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة ، فالهيأة المشبّهة هي النفقة التي حفّ بها طلب رضي الله والتصديقُ بوعده فضوعفت أضعافاً كثيرة أو دونها في الكثرة ، والهيأة المشبّهة بها هي هيأة الجنّة الطيّبة المكان التي جاءها التهتَان فزكا ثمرُها وتزايد فأكملت الثمرة ، أو أصابها طلّ فكانت دون ذلك .
والجنّة مكان من الأرض ذو شجر كثير بحيث يجِنّ أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتقّ من جنَّ إذا ستر ، وأكثر ما تطلق الجنّة في كلامهم على ذات الشجر المثمر المختَلف الأصناف ، فأما ما كان مغروساً نخيلاً بحتاً فإنّما يسمى حائطاً . والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلادهم بعد التمر ، فقد كان الغالبَ على بلاد اليمن والطائف . ومن ثمارهم الرمّان ، فإن كان النخل معها قيل لها جنّة أيضاً كما في الآية التي بعد هذه . ومما يدل على أنّ الجنّة لا يراد بها حائطُ النخل قوله تعالى في [ سورة الأنعام : 141 ] { وهوَ الذي أنشأ جناتٍ معْروشات وغير معْروشات والنّخل والزرع } فعطف النخل على الجنّات ، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم ، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة .
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبّة ثم بجنّة جناس مصحَّف .
والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجُبيل . وقرأ جمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأه ابن عامر وعاصم بفتح الراء . وتخصيص الجنة بأنّها في ربوة لأنّ أشجار الربى تكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول { ضعفين } ، والثانية تحسين المشبّه به الراجع إلى تحسين المشبّه في تخيّل السامع .
والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضاً ، وقد قيل إن كل فُعْل في كلام العرب فهو مخفف فُعُل كعُنْق وفُلْك وحُمْق ، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى : { بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ } [ سبإ : 16 ] وقال : { تؤتى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } [ إبراهيم : 25 ] ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب « أُكْلها » بسكون الكاف ، وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف .
وقوله : « ضِعفين » التثنية فيه لمجرد التكرير مثل لَبَّيْك أي آتت أكلها مضاعفاً على تفاوتها .
وقوله : { فإن لم يُصبها وابل فطل } ، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فآتت أكلها دون الضعفين . والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم ، وهو مع ذلك متفاوت على تفاوت مقدار الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر نفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله عز وجل، ولا يمن بها، فقال سبحانه: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم}: وتصديقا من قلوبهم، فهذا مثل نفقة المؤمن التي يريد بها وجه الله عز وجل، ولا يمن بها، {كمثل جنة بربوة}: بستان في مكان مرتفع مستو، تجري من تحتها الأنهار، {أصابها}: أصاب الجنة {وابل}: المطر الكثير الشديد، {فآتت أكلها}: أضعفت ثمرتها في الحمل {ضعفين}، فكذلك الذي ينفق ماله لله عز وجل من غير أن يضاعف له نفقته إن كثرت أو قلت، كما أن المطر إذا اشتد، أو قل أضعف ثمرة الجنة حين أصابها وابل، {فإن لم يصبها وابل فطل}: أصابها عطش من المطر، وهو الرذاذ مثل الندى، {والله بما تعملون}: بما تنفقون {بصير}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومثل الذين ينفقون أموالهم فيصّدّقون بها ويحملون عليها في سبيل الله ويقوّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله وفي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته. {وَتَثبيتا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: وتثبيتا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقا، من قول القائل: ثَبّتّ فلانا في هذا الأمر: إذ صححت عزمه وحققته وقوّيت فيه رأيه أثبته تثبيتا.
وإنما عنى الله جلّ وعزّ بذلك، أن أنفسهم كانت موقنة مصدّقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصحح عزمهم وآراءهم يقينا منها بذلك، وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: {وَتَثْبِيتا}: وتصديقا، ومن قال منهم: ويقينا، لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله.
وقال آخرون: {وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ}: أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم... [عن] الحسن قرأ: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبت؛ فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك.
وهذا التأويل الذي ذكرناه عن الحسن تأويل بعيد المعنى مما يدلّ عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأوّلوا قوله: {وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} بمعنى: وتثبتا، فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان: وتثبتا من أنفسهم¹ لأن المصدر من الكلام إن كان على تفعلت التفعل، فيقال: تكرمت تكرما، وتكلمت تكلما، وكما قال جل ثناؤه: {أوْ يأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ} من قول القائل: تخوّف فلان هذا الأمر تخوّفا. فكذلك قوله: {وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} لو كان من تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام: «وتثبتا من أنفسهم»، لا «وتثبيتا»، ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عزّ وجلّ: {وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً} ولم يقل: تبتلاً؟ قيل: إن هذا مخالف لذلك، وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه: «تبتيلاً» لظهور «وتبتل إليه»، فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه قيل: تبتيلاً، وذلك أن المتروك هو: «تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلاً»، وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدّمتها إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعزّ: {وَاللّهُ أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتا} وقال: {وَأنْبَتَهَا نباتا حَسَنا} والنبات: مصدر نبت، وإنما جاز ذلك لمجيء أنبت قبله، فدلّ على المتروك الذي منه قيل نباتا، والمعنى: والله أنبتكم فنبّتم من الأرض نباتا. وليس قوله: {وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه. ومعنى الكلام: ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: {وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً} وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.
وقال آخرون: معنى قوله: {وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ}: احتسابا من أنفسهم. وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى التثبيت، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى الاحتساب، إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت فيترجم عنه به.
{كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وَابلٌ فَآتَتْ أُكُلُها ضِعْفَيْنِ فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ}: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فيتصدّقون بها، ويسبّلونها في طاعة الله بغير منّ على من تصدّقوا بها عليه ولا أذى منهم لهم بها ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده، {كَمَثَلِ جَنّةٍ} والجنة: البستان. {بربوة}: والربوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غُلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رقّ منها... وإنما سميت الربوة لأنها ربت فغلظت وعلت، من قول القائل: ربا هذا الشيء يربو: إذا انتفخ فعظم.
وكان آخرون يقولون: هي المستوية... هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.
{أصَابَها وَابِلٌ}: أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ}: يعني الجنة أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر، والأُكْل: هو الشيء المأكول، وهو مثل الرّعْب والهُزْء وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على فعل¹. وأما الأَكْل بفتح الألف وتسكين الكاف، فهو فعل الآكل، يقال منه: أكلت أَكْلاً.
{فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ}: فإن الطلّ: هو الندى واللين من المطر... أي طشّ...
وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل فإن أخطأ هذا الوابل فالطلّ كذلك يضعف الله صدقة المتصدّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير منّ ولا أذى، قلّت نفقته أو كثرت لا تخيب ولا تخلف نفقته، كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الأحوال... كما أضعفت ثمرة تلك الجنة، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين.
هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلف، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أيّ حال، إما وابل، وإما طلّ.
{وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: والله بما تعملون أيها الناس في نفقاتكم التي تنفقونها بصير، لا يخفى عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء يعلم من المنفق منكم بالمنّ والأذى والمنفق ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتا من نفسه، فيحصي عليكم حتى يجازي جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرّا.
وإنما يعني بهذا القول جلّ ذكره، التحذير من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده، وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحد من خلقه ما قد تقدم فيه بالنهي عنه، أو يفرّط فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومسمع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في الأمثال التي ضربها الله تعالى، وذكرها في القرآن وجوه:
أحدها: جواز قياس ما غاب من الحكم عن المنصوص بالمنصوص إذا جمعها معنى واحد...
والثاني: أن علوم المحسوسات والمشاهدات هي علوم الحقائق، وهي الأصول التي بها يستدل، ويوصل إلى معرفة الغائب.
والثالث: فيها إثبات رسالة محمد، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، وذلك أن العرب لا تضرب الأمثال، ولا كانت تعرفها في أمر التوحيد وتعريف ما غاب عن حواسهم من أمر القيامة ونحو ذلك، ثم بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وذكر فيه الأمثال ليذكرهم تلك الأمثال ليعلموا أنه لما عرفها بالله عز وجل لا أنه أنشأ هذا القرآن من تلقاء نفسه، وذلك من آيات نبوته ورسالته...
والرابع: فيها دلالة أن الله، جل، وعلا، خالق الدنيا وما فيها من المحاسن والخبائث والأعالي والخسائس حين ضرب مثل الرفيع والخسيس بالخسيس، فدل أن خالق هذه الأشياء كلها هو الله تعالى، لا شريك له، ولا شبيه... ثم شبه الصدقة التي هي لله جل وعلا مرة بالربوة من الأرض، وهي المرتفعة منها، ومرة بالحبة التي تنبت كذا سنبلة، وفي كل سنبلة كذا وكذا حبة، ومرة بالإضعاف المضاعفة كقوله تعالى: {فيضعفه له أضعافا كثيرة} [البقرة: 245]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذه آيات كثيرة ذكرها الله تعالى على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق: لمن أنفق في سبيل الله، ولمن أنفق ماله في الباطل؛ فهؤلاء يحصل لهم الشرف والخلف، وهؤلاء لا يحصل لهم في الحال إلا الردّ، وفي المآل إلا التلف. وهؤلاء ظلَّ سعيهم مشكوراً، وهؤلاء يدعون ثبوراً ويَصْلَوْنَ سعيراً. هؤلاء تزكو أعمالهم وتنمو أموالهم وتعلو عند الله أحوالهم وتكون الوصلة مآلهم. وهؤلاء حَبِطَتْ أعمالهم وخسرت أحوالهم وختم بالسوء آمالهم ويضاعف عليهم وَبالهم ويقال مَثَلُ هؤلاء كالذي أنبت زرعاً فزكا أصله ونما فصله، وعلا فَرْعُه وكثر نَفْعُه. ومَثَلُ هؤلاء كالذي خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت -على كبره- حيلته وتواترت من كل وجهٍ وفي كل وقت محنته... هل يستويان مثلاً؟ هل يتقاربان شَبَها؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ}: وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح. وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان؛ لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها، وبالعكس، فكان إنفاق المال تثبيتاً لها على الإيمان واليقين. ويجوز أن يراد: وتصديقاً للإسلام. وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم؛ لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه. «ومن» على التفسير الأوّل للتبعيض، مثلها في قولهم: هز من عطفه، وحرك من نشاطه. وعلى الثاني لابتداء الغاية، كقوله تعالى: {حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه نقيض ما يتقدم ذكره لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن، فلما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع فضرب لها مثلاً، وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة... لأن المراد بذكر الجنة غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله، كأنه قال: كمثل غارس جنة، و {ابتغاء} معناه طلب، وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال. وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله. لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو {وتثبيتاً} عليه...
والجنة البستان وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض، فهي من لفظ الجن والجنن والجنة وجن الليل... والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعاً يسيراً معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه، وما كان كذلك فنباته أحسن، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسميه أبرد وأرق...
و «الأُكْل» بضم الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل، والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة...
والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها، وهو المراد من قوله {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} [الصف: 11] وهذا الوجه ذكره صاحب «الكشاف»، وهو كلام حسن وتفسير لطيف...
خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع: أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان: 9] ووصف إنفاق أبي بكر فقال: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى} [الليل: 19، 20، 21] فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحظ. فهناك اطمأن قلبه، واستقرت نفسه، ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه، ولهذا قال أولا في هذا الإنفاق إنه لطلب مرضاة الله، ثم أتبع ذلك بقوله {وتثبيتا من أنفسهم}...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق. فإن ابتغاء مرضاته سبحانه: هو الإخلاص، والتثبيت من النفس: هو الصدق في البذل، فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية: إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين. والآفة الثانية: ضعف نفسه بالبذل وتقاعسها وترددها. هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى: تزول بابتغاء مرضاة الله والآفة. الثانية تزول: بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل. وهذا هو صدقها.
وطلب مرضاة الله: إرادة وجهه وحده، وهذا إخلاصها. فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة (وهي البستان الكثير الأشجار) فهو مجتن بها – أي: مستتر ليس قاعا فارغا... والجنة بربوة: وهو المكان المرتفع، لأنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض، لأنها إذا ارتفعت كانت بدرجة الأهوية والرياح، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها. فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره، فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال، وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى: {أصابها وابل} وهو المطر الشديد العظيم القدر، فأدت ثمرتها وأعطت بركتها، فأخرجت ثمرها ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل. فهذا حال السابقين المقربين {فإن لم يصبها وابل فطل} فهو دون الوابل فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطل، وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة. وهم {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} [البقرة: 274]، {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]. وأصحاب الطل: مقتصدوهم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في المعنى، قوله عليه السلام في الحديث المتفق على صحته:"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا..." أي: يؤمن أن الله شرعه، ويحتسب عند الله ثوابه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الذين ينفقون أموالهم} أي مثل نفقاتهم لغير علة دنياوية ولا شائبة نفسانية بل {ابتغاء مرضات الله} أي الذي له الجلال والإكرام فلذلك صلح كل الصلاح فعري عن المن والأذى وغيرهما من الشوائب الموجبة للخلل قال الحرالي: والمرضاة مفعلة لتكرر الرضى ودوامه...
{وتثبيتاً من أنفسهم} بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم والصفح والصبر على جميع مشاق التكاليف فإن من راض نفسه بحملها على بذل المال الذي هو شقيق الروح وذلت له خاضعة وقل طمعها في اتباعه لشهواتها فسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طمعاً في اتباع الشهوات ولزوم الدناءات...
قال الحرالي: ولما كان حرث الدنيا حباً وثمراً جعل نفقات الأخرى كذلك حباً وتمراً. فمن أنفق في السبيل جعل مثله كالحب، ومن أنفق ابتغاء لمرضاة الله جعل مثله كالجنة التي لها أصل ثابت تدور عليها الثمرات وهي ثابتة وتستغني من الماء بما لا يستغني به الحرث لأن الحرث مستجد في كل وقت، كما أن الجهاد واقع عند الحاجة إليه والمنفق ابتغاء مرضاة الله ينفق في كل وجه دائم الإنفاق، فكان مثله مثل الجنة الدائمة ليتطابق المثلان بالممثولين، فعمت هذه النفقة جهات الإنفاق كلها في جميع سبل الخير...
والمعنى أن أهل هذا الصنف لا يتطرق إلى أعمالهم فساد، غايتها أن يطرقها النقص باعتبار ضعف النيات، ولذلك كان التقدير تسبيباً عن ذلك: فالله بما تستحقون على نياتكم عليم، فعطف عليه قوله: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {بما تعملون} أي بما ظهر منه {بصير *} كما هو كذلك بما بطن، فاجتهدوا في إحسان الظاهر والباطن. وقدم مثل العاري عن الشرط عليه لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يقول ذاك الذي تقدم هو مثل أهل الرياء، وأصحاب المن والإيذاء، {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم} أي لطلب رضوان الله ولتثبيت أنفسهم وتمكينها في منازل الإيمان والإحسان حتى تكون مطمئنة في بذلها لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا اضطراب الحرص لإيثارها حب الخير عن أمر الله على حب المال، عن هوى النفس ووسوسة الشيطان. وإنما يكون هذا التثبيت بتعويد النفس على البذل حيث يفيد البذل، حتى يصير الجود لها طبعا وخلقا. وإنما قال: {من أنفسهم} ولم يقل لأنفسهم لأن إنفاق المال في سبيل الله يفيد بعض التثبيت والطمأنينة، وإنما كمال ذلك ببذل الروح والمال جميعا في سبيله، كما قال تعالى في سورة الحجرات {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [الحجرات: 15]. وقد هدانا تعليل الانفاق بهاتين العلتين إلى أن نقصد بأعمالنا أمرين. أولهما: ابتغاء رضوانه لذاته تعبدا له. وثانيهما: تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال. على أن هذا وسيلة لذاك. وفائدة كل من الأمرين عائدة علينا والله غني عن العالمين. فإذا صدقنا في القصدين صدق علينا هذا المثل وكنا في نفع إنفاقنا {كمثل جنة بربوة}...
والمعنى: أن هذه الجنة أكلها دائم وظلها، كثر ما يصيبها من المطر أو قل. فإن لم يكن ثمرها مضاعفا لم يكن معدوما، فإذن لا يكون طلبه قط محروما. ووجه الشبه عندي أن المنفق ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفسه هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه كالجنة الجيدة التربة الملتفة الشجر العظيمة الخصب في كثرة بره وحسنه. فهو يجود بقدر سعته فإن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدره. فخيره دائم وبره لا ينقطع، لأن الباعث عليه ذاتي لا عرضي كأهل الرياء وأصحاب المن والإيذاء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله} أي: قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه {وتثبيتا من أنفسهم} أي: صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد، وتثبيتا من أنفسهم، فمثل نفقة هؤلاء {كمثل جنة} أي: كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة {بربوة} أي: محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها،... فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها... وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه، وتوجهت همم عزائمه إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات، ولهذا قال تعالى: {والله بما تعملون بصير} فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل، فيجازيه عليه أتم الجزاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد.. فقلب عامر بالإيمان، ندي ببشاشته. ينفق ماله {ابتغاء مرضاة الله}.. وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير.. وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب، فالقلب المؤمن تمثله جنة. جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان. جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك. بل أحياها وأخصبها ونماها.. {أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين}.. أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء. وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو... إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب.. ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب: {الله بما تعملون بصير}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مَثَل الذي ينفق ماله رئاء الناس، لزيادة بيان ما بين المرتبتين مِن البَوْن وتأكيداً للثناء على المنفقين بإخلاص، وتفنّناً في التمثيل. فإنّه قد مثَّله فيما سلف بحبَّة أنبتت سبع سنابل، ومثّله فيما سلف تمثيلاً غير كثيرِ التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب، فلما مَثَّل حال المنفق رِئاءً بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيُّل؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيباً وضمّنت الهيأة المشبّه بها أحوالاً حسنة تكسبها حُسناً ليسري ذلك التحسين إلى المشبَّه، وهذا من جملة مقاصد التشبيه وانتصب {ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً} على الحال بتأويل المصدر بالوصف، أي مبتغين مرضاة الله ومثَبِّتين من أنفسهم... والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكّك والتردّد... أي أنّهم يمنعون أنفسهم من التردّد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتْركون مجالاً لخواطر الشحّ، فإنّ إراضة النفس على فعل ما يشُق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدناً... وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأنّ المال ليس أمراً هيناً على النفس...
وموقع {من} هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلّق الفعل، بحَيْث لا يطلب تسلّط الفعل على جميع ذات المفعول بل يُكتفى ببعض المفعول، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله، وظاهر كلام « الكشاف» يقتضي أنّه جعل التبعيض فيها حقيقياً...
ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر، وهو ما تقرر في الحكمة الخُلُقية أن تكرّر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها، وبلا كلفة ولا ضجر. فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر، والذي يأتي تلك المأمورات يثبِّت نفسه بأخلاق الإيمان، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحْريضاً على تكرير الإنفاق...
ومُثِّل هذا الإنفاق بجنّة بربوة إلخ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة...
ومما يدل على أنّ الجنّة لا يراد بها حائطُ النخل قوله تعالى في [سورة الأنعام: 141] {وهوَ الذي أنشأ جناتٍ معْروشات وغير معْروشات والنّخل والزرع} فعطف النخل على الجنّات، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة...
وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبّة ثم بجنّة جناس مصحَّف...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{و مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم} فالمثل هو الحال والشأن، ومعنى ابتغاء مرضاة الله طلب رضاه سبحانه وتعالى الدائم المستمر، فالمرضاة مفعلة من الرضا، فهي مصدر ميمي من الرضا، وهو أقوى في الدلالة من معنى الرضا، إذ المعنى فيها الرضا الثابت الدائم الذي لا يكون معه أي غضب من المولى العزيز الحكيم القوي القهار، فهو ينفق طالبا قويا موثقا رضا الله سبحانه وتعالى رضا دائما مستمرا...
و أما المعنى "تثبيتا "فقد اختلفت عبارات المفسرين حولها، وإن انتهت إلى الاتفاق على مغزاها ومرماها، وإن أصل معنى ثبت قوى حقيقة ودعمها، ومن ذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء 27} (إبراهيم)... وفي هذا إشارة واضحة إلى أنهم ينفقون ما ينفقون قاصدين وجه الله تعالى، وأن ذلك القصد يستمر دائما، فلا يجيء وقت يمنون فيه ويؤذون؛ لأن الثبات يقتضي الاستمرار على حال واحدة، وهي حال ابتغاء رضا الله وحده، لا يرجون من غيره جزاء ولا حمدا ولا ثناء، ولا يبتغون بغير رضا الله بديلا...
{والله بما تعملون بصير} ختم سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية ليعلم الناس عظيم مراقبته سبحانه وتعالى لأحوالهم، واطلاعه على خفايا نفوسهم، فيراقبوه سبحانه في أفعالهم وأقوالهم، كما يراقبهم سبحانه، فتمتلئ قلوبهم عند العمل بعظمته، فيعملوا ما يعملون محسين بأنه مطلع على ما تخفي صدورهم، فتتجه القلوب – تحت تأثير هذه الرقابة المسيطرة العليمة التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة – إليه سبحانه وحده، ولا تتجه إلى سواه...
و فوق ذلك فإن لذلك التذييل السامي معنى آخر مناسبا مناسبة أخص للسياق الخاص، بحسن القصد في الإنفاق، وهو بيان أن الله سبحانه وتعالى يعلم الذين أخلصت قلوبهم في الصدقة فلم تبتغ رضا أحد غير الله تعالى، فيجازيها على إخلاصها في النية، واحتسابها الخير لوجه الله الكريم، ويعلم من ينفق رياء أو يتبع ما ينفق بالمن والأذى فيحبط عمله. و إن عبارات التذييل في ذاتها تربي المهابة للذات العلية في النفس التي تريد ما عند الله تعالى، فإنه قد صدر الجملة السامية بلفظ الجلالة الذي يدل في ذاته على العلو والسلطان والألوهية الحق، ثم إن هذا القاهر فوق عباده يعلم علم من يبصر ويعاين ويرى بكل ما يعمله الناس من خير وشر، وما يقصدون في صدقاتهم، فإن أرادوا رضاه فقد آووا إلى ركن حصين، وإن قصدوا سواه فهم على شفا جرف هار، وسينهار بهم في نار جهنم، فلا أموالهم بقيت لهم، ولا الثواب نالوا، بل العقوبة تستقبلهم ومقت الناس يلحقهم، والله من ورائهم محيط...